هرم التعليم المقلوب

هرم التعليم المقلوب


أثارت نتائج الثانوية العامة هذا العام قلق البعض‏,‏ لزيادة أعداد الناجحين‏,‏ وزيادة اعداد المتفوقين الحاصلين علي أكثر من‏95%..‏ ورأوا أن في ذلك خطأ أو تقصيرا في ضبط الاعداد لكي تتناسب مع الأماكن المتاحة في الجامعات‏.‏

وفي نفس الوقت أدت هذه النتائج الي نتيجة مختلفة لدي الطلبة وأولياء أمورهم وخبراء التعليم ولدي الرأي العام‏..‏ ورأوا فيها الثمار الطبيعية للسياسة التي وضعها الرئيس حسني مبارك منذ‏8‏ سنوات باعلان التعليم المشروع القومي لمصر‏,‏ وفي سبيل تنفيذ هذه السياسة أعطي الرئيس للتعليم مالم يحدث من قبل ولم يكن يخطر علي البال‏..‏ اذ لم يكن يخطر علي البال ان تقفز ميزانية التعليم من‏880‏ مليون جنيه الي‏14‏ ألف مليون جنيه‏..‏ ولم يكن يخطر علي البال ان يتضاعف عدد المدارس ببناء عشرة آلاف وخمسمائة مدرسة جديدة انفقت عليها مليارات الجنيهات‏..‏ ولم يكن يخطر علي البال ان يوفد المدرسون بالمئات في بعثات الي أوروبا وأمريكا للتدريب علي طرق التدريس الحديثة‏..‏ ولم يكن يخطر علي البال ان يتم تغيير المناهج في المرحلتين الابتدائية والإعدادية ويصدر قانون زيادة سنوات التعليم الابتدائي تنفيذا لقرارات أربعة مؤتمرات قومية‏,‏ ولم يكن يخطر علي البال ان يكون في كل مدرسة أجهزة كمبيوتر ثم يصبح تدريس الكمبيوتر مادة أساسية تضاف الي المجموع‏..‏ وباختصار فان عمليات التطوير التي يقودها الرئيس مبارك بكل هذه الجدية لابد أن تؤتي ثمارها‏..‏ واذا لم يحدث هذا فلابد ان نحاسب المسئولين عن التعليم‏..‏ اعطيناكم الكثير فأين النتائج‏..‏ والنتائج ؟ التي يريدها المجتمع هي زيادة أعداد الناجحين وزيادة اعداد المتفوقين‏.‏

ولا يعقل أن نضع مقدمات تؤدي الي زيادة الناجحين والمتفوقين ثم نتوقع أو نتصور ان تكون النتيجة هي تقليل أعدادهم‏..‏ ولا يعقل أيضا ان يزيد عدد السكان سنة بعد سنة ولا تزيد أعداد التلاميذ في كل المراحل وبالتالي زيادة الناجحين والمتفوقين‏,‏ فهذه زيادة طبيعية‏..‏ بل هي زيادة حتمية‏..‏ والشيء المنطقي اذا أردنا تقليل أعداد الناجحين والمتفوقين ان نبدأ أولا بتقليل اعداد المقبولين في كل مراحل التعليم‏,‏ ثم تقليل المجهود الذي يبذل لمنع التسرب من التعليم‏,‏ ووقف العمل علي التوسع في تعليم الفتيات‏,‏ وايقاف بناء مدارس جديدة‏,‏ ثم يأتي بعد ذلك ما يطالب به البعض من ان تكون أعداد الناجحين والمتفوقين محددة سلفا كل عام بقرار سياسي قبل ان تبدأ الامتحانات‏..‏ لان هذا القرار يترتب عليه عدة قرارات لزيادة صعوبة الامتحانات والتشدد في التصحيح‏,‏ وفي النهاية فلن تقبل كليات القمة إلا الاعداد التي كانت تقبلها من قبل مع فارق واحد‏..‏ ان من كان يجد فرصة الالتحاق بهذه الكليات بمجموع‏98%‏ سيكون هو نفسه ولكن بمجموع‏88%‏ مثلا‏..‏ ونكون قد ضحكنا علي أنفسنا‏..‏ لاننا لن نستطيع ان نضحك علي الناس وهم أكثر ذكاء من المطالبين بالأخذ بهذه الأساليب البهلوانية غير الاخلاقية‏.‏

ومن الأفضل ان نطلع علي ما يحدث في الدول المتقدمة قبل ان نتطوع بإطلاق القول علي عواهنه‏,‏ ونصبح نحن في واد والفكر التربوي الحديث في واد آخر‏,‏ وفي هذا وهناك‏4‏ ملاحظات‏:‏

أولا‏:‏ ان الطلبة وأولياء الأمور يحتشدون للثانوية العامة علي انها امتحان مسابقة‏,‏ ليس المهم المجموع ولكن المهم الحصول علي أكبر مجموع‏,‏ والراغبون في كليات القمة هم القادرون علي الوصول الي الأرقام القياسية‏,‏ بل هم قادرون علي تحطيم الأرقام القياسية‏,‏ وليس هذا غريبا‏,‏ ونحن في زمن تتحطم فيه الأرقام القياسية في كل المجالات من الرياضة الي العلوم والاختراعات‏,‏ ومن الفن الي الطب والعلاج‏,‏ وحتي متوسط الاعمار حطم الأرقام القياسية التي كانت في العصور السابقة‏..‏ فلماذا الدهشة من أن يتحقق ذلك في نتائج التعليم ونحن نلمسه كل يوم في حمل الاثقال والجري والسباحة‏..‏ وهل ما يحققه ابطال الرياضة هو ما كانوا عليه منذ سنوات‏..‏؟

ثانيا‏:‏ ان فلسفة التعليم تغيرت‏..‏ كانت قائمة علي نظرية الهرم‏..‏ القمة ضيقة فيها النوابغ والمتفوقين‏,‏ والملايين تحت في القاعدة ليس أمامهم إلا الأعمال اليدوية التي لا تحتاج التعليم أو التدريب أو الخبرة‏..‏ الآن نحن في عصر كل شيء فيه يسير بالتكنولوجيا الحديثة‏..‏ من سيارات جمع القمامة‏..‏ وصولا الي الجيوش التي لم يعد يصلح فيها الجندي المحدود التعليم وتحتاج الي جندي من نوع آخر لديه قدر عال من التعليم يمكنه من استيعاب سلاح شديد التعقيد يعمل بالكمبيوتر والالكترونيات والليزر‏..‏ مرورا بما تحتاجه الصناعة الحديثة والزراعة الحديثة‏..‏ واذن فالفلسفة تغيرت‏..‏ واصبح الفكر الآن ان يكون هدف التعليم هو التميز‏..‏ وان يكون التميز للجميع‏..‏ وهذا المبدأ ارساه الرئيس مبارك في اعلانه عن العقد الثاني للطفل حين حدد هدف التعليم في مصر بان يكون هو التميز وان يكون التميز للجميع‏..‏ وهذه هي عبارات الرئيس‏.‏

النظرية التربوية الحديثة قائمة علي فكرة الهرم المقلوب‏..‏ في القمة الاغلبية التي تتمتع بدرجة عالية من التعليم والتفوق والتميز وفي القاعدة عدد قليل من ضحايا الأمراض أو التخلف العقلي أو الظروف الاجتماعية المتعثرة‏..‏ بذلك يكون المجتمع مجتمع التفوق وليس مجتمع الانسان العادي الذي لم يعد يصلح لضرورات عصر التكنولوجيا التي تشهد ثورات تفوق الخيال وبسرعة تفوق القدرة علي ملاحقتها‏.‏

ثالثا‏:‏ بعد ان اصبحنا في مجتمع الاقتصاد الحر واقتصاد السوق‏,‏ واصبح البقاء للاصلح‏,‏ ومع تكافؤ الفرص‏,‏ ومجانية التعليم‏,‏ اصبح التفوق هو الهدف الذي يلهث من أجله الطلبة في صراع وصل الي درجة اليقين بان المسألة مسألة حياة أو موت‏.‏

فهل من المناسب أن نصدم الشباب بالاعتراض علي نتائج التفوق ونطالب حكومة الحزب الوطني‏-‏ في وقت الانتخابات‏-‏ باتخاذ قرارات وسياسات للحد من أعداد الناجحين والمتفوقين‏..‏ هل هذا هو الوقت المناسب لمثل هذا الكلام‏..‏ وهل هذه هي الفطنة السياسية‏..‏ وهل هذا هو الجزاء المناسب لصاحب الفضل في اعطاء ابنائنا كل هذه الوسائل للتفوق‏..‏أليس من الواجب ان نقول للرئيس مبارك‏..‏ شكرا يا سيادة الرئيس لانك حققت في مصر ما يشبه المعجزة حتي ان بعض العقول لا تصدقها‏..‏ ان المتفوقين في عهدك يزداد عددهم‏.‏

رابعا‏:‏ ان المؤتمر العام للحزب الوطني برئاسة الرئيس مبارك أصدر قرارا عام‏1992‏ بالتوسع في التعليم العالي‏,‏ وعلي الحكومة ان تنفذ هذا القرار‏,‏ كذلك هناك توصية من المجلس القومي بعد بحث قضية تزايد الأعداد بزيادة اعداد الجامعات والمعاهد بحيث يكون في مصر جامعة لكل مليوني مواطن‏..‏ هذا هو الحل الذي يجب ان نفكر فيه لانه يتبني المواهب ويساعد علي تقدم المجتمع بدلا من الدعوة الي حلول تعيدنا الي الوراء‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف