العلاج بالقراءة

في كل عام يحقق برنامج القراءة للجميع نجاحا جديدا في توسيع دائرة الاهتمام بالانتاج الثقافي والفكري‏,‏ واعادة الكتاب الي مكانته في البيت وفي حياة كل فرد من أفراد الاسرة‏,‏ وترسيخ قيمة من اهم القيم الحضارية هي قمة المعرفة‏..‏والجديد هذا العام ان نكتشف ان القراءة وسيلة حديثة لعلاج كثير من الامراض النفسية والجسمية‏,‏ ونكتشف ان هذه الحقيقة اصبحت من الحقائق العلمية الثابتة في الدول المتقدمة‏,‏ وان هناك دراسات وابحاثا ميدانية تثبت بالاحصائيات والنتائج جدوي القراءة في تحسين القدرات العقلية‏,‏ وفي بناء الشخصية‏,‏ وفي امداد الانسان بالمعلومات وبالطاقة والقدرة علي التغلب علي الامراض‏.‏

وهذا الاكتشاف الجديد يجعلنا مدينين بالشكر مجددا للسيدة سوزان مبارك التي تقود هذا المشروع وتسهم به في علاج امراض اجتماعية اولها التخلف الاجتماعي والثقافي والاغتراب والانفصال عن الجذور التاريخية والثقافية وتسهم ايضا في علاج امراض جسمية ونفسية لمن ينتفعون بهذا المشروع دون ان يدروا‏.‏

وهناك مئات المراجع باللغات الاجنبية حول هذا الموضوع‏,‏ لكن اول مرجع علمي باللغة العربية لم يصدر إلا هذا العام بعنوان العلاج بالقراءة تأليف الدكتور شعبان خليفة الاستاذ بجامعة القاهرة‏,‏ وهو من أبرز العلماء المتخصيين في علم الكتاب والمكتبات‏,‏ ويشير فيه الي‏538‏ مرجعا باللغة الانجليزية يمكن ان يرجع اليها من يريد المزيد من المعرفة حول هذا الموضوع‏..‏ ويبدأ الكتاب باثبات ان المصريين القدماء هم اول من ادركوا القوة العلاجية للكتاب‏,‏ وأخذ الاغريق عنهم هذا العلم‏,‏ وفي العصر الحديث بدأ العلاج بالقراءة من مطلع القرن التاسع عشر‏,‏ وتطورت خدمة المكتبات للمرضي في المستشفيات‏,‏ وفي كل عام يتزايد عدد المستشفيات التي تستخدم القراءة ضمن وسائل علاج مرضاها‏,‏ واصبح هناك تخصص جديد لامناء مكتبات مؤهلين لمساعدة المرض علي العلاج بالقراءة‏,‏ اما مستشفيات الامراض النفسية والعقلية في الولايات المتحدة فقد اصبحت القرادة والمكتبة وامين المكتبة المتخصص من اللوازم التي لايمكن ان تعمل المستشفي بدونها‏..‏

والنظرية الحديثة في العلاج هي التي قادت العلماء والاطباء الي استخدام القراءة كوسيلة علاجية‏,‏ وملخص هذه النظرية ان الانسان كيان واحد متكامل من الجسم‏,‏ والنفس‏,‏ والعقل‏,‏ واذا كانت الادوية لها تأثيرها الكيميائي علي الجسم‏,‏ فان العلاقات والانفعالات والمشاعر لها تأثيرها السلبي والإيجابي علي الحالة المفسية‏,‏ والمعرفة والفكر لهما تأثيرهما علي العقل‏,‏ وفي النهاية فان هذه المكونات الثلاثة للانسان ليست كيانات منفصلة‏,‏ ولكن هناك تفاعلا وتأثيرا متبادلا من كل منها علي الآخر‏,‏ وهنا فان علاج الجسم وحده لا يكفي وإذا أضيف إليه العلاج بتنمية الاتجاهات النفسية والعقلية الايجابية فسوف يحقق نتائج افضل‏.‏

والدكتور شعبان خليفة يخصص فصول كتابه الكبير لتقديم الادلة ونتائج الابحاث التي اثبتت ان العلاجات المساندة للعلاج الطبي التقليدي لها تأثير مؤكد‏,‏ ومن هذه العلاجات‏,‏ المساندة العلاج بالموسيقي‏,‏ والعلاج بالفن‏,‏ والعلاج بالرقص‏,‏ ويأتي العلاج بالقراءة في مقدمة هذه العلاجات ويؤكد ذلك علماء النفس والمعالجون النفسيون والمتخصصون في الصحة العقلية‏,‏ وفي امريكا برامج لتدريب امناء المكتبات علي مساعدة المرضي والاصحاء علي برامج العلاج والوقاية وتنمية الشخصية بالقراءة‏..‏كما اصبحت هذه المهمة من مهام امناء مكتبات المدارس والمكتبات العامة‏,‏ لتعويد القارئ علي التفاعل مع مايقرأه‏,‏ ولكي يكتسب امين المكتبة المقدرة علي تقديم الكتاب المناسب للقارئ المناسب في الوقت المناسب حول المشكلة التي تهمه او تشغله‏,‏ كما يدربون امناء المكتبات علي التعاون مع الفريق الطبي في اختيار الموضوعات والمواد المناسبة لكل مريض والتي تناسب شخصيته‏,‏ وثقافته‏,‏ونوع مرضه‏,‏ بحيث يكون امين المكتبة هو ذاته معالجا وصديقا للمرضي‏.‏

وغريب ان يصبح العلاج بالقراءة علما بهذه الاهمية‏,‏ وان تكون هناك كل هذه الدراسات التي اشار اليها الدكتور شعبان خليفة‏,‏ ولا يكون لدينا الوعي باهمية هذا العلم‏.‏ بينما الدول المتقدمة توصلت منذ خمسين سنة تقريبا الي استخدام القراءة في علاج الامراض النفسية مثل المخاوف‏phobias‏ مثل الخوف من الظلام‏,‏ او الخوف من الاماكن المغلقة‏,‏ او الاماكن المرتفعة‏..‏الخ‏..‏

ومثل حالات القلقالعارض مثل القلق من الامتحانات او القلق من مواقف معينة في العمل او التعامل مع الآخرين‏,‏ او القلق المرضي الذي يحتاج الي الطبيب النفسي والعيادة النفسية وقد يحتاج الي استخدام بعض الادوية واصبح معها الآن قراءة كتب وموضوعات معينة يحددها الطبيب المعالج في روشتة العلاج‏,‏ كما يصف قراءة كتب وموضوعات لمعالجة مشكلات الاتجاهات العقلية والسلوكية مثل الاتجاهات نحو السرقة‏,‏ او تعاطي المخدرات‏,‏ او الخلل في فكرة الانسان عن نفسه‏,‏ او المشاكل الجنسية والعاطفية‏,‏ او المشكلات الاجتماعية مثل الطلاق‏,‏ وتفكك الاسرة‏,‏ والشيخوخة‏,‏ وفقدان الاهل والاصدقاء‏..‏ الخ فقد اصبح الكتاب دواء من الادوية التي توصف كعلاج مكمل للعلاج النفسي او الدوائي او الجراحي‏..‏

هذه النظرية في العلاج بالقراءة تعتمد علي النتائج المؤكدة لتفاعل الانسان مع مايقرأه‏..‏وعادة تكون نتيجة القراءة التوحد مع إحدي شخصيات رواية والتفاعل معها‏,‏ او الارتباط بفكرة في الكتاب‏,‏ او رمز من الرموز قد يكون شخصية تاريخية وقد يكون مبدأ اخلاقيا او دينيا او سياسيا وغالبا مايشعر القارئ براحة نفسية بعد قراءة كتب او روايات او اشعار معينة‏..‏وهذه الراحة تأتي نتيجة التنفيس عما في داخل الانسان من مشاعر ومخاوف او احباطات‏,‏ والتحرر العاطفي التلقائي من بعض العوامل النفسية الضاغطة عليه دون ان يكون علي وعي بها‏..‏وبالقراءة في موضوعات معينة يمكن ان يصل الانسان الي حالة الاستبصار التي يتحدث عنها علماء النفس‏,‏ وهي لحظة اكتشاف الانسان لجانب من الجوانب الخفية في اعماق نفسه او في اللاشعور‏,‏ حين تمس الكلمات والافكار والمشاعر التي يقرأها هذه المشاعر الكامنة والتي تؤثر في الانسان دون وعي منه بوجودها وتأثيرها‏.‏ ومن الممكن ان يصل الانسان بالقراءة الي التخلص من عقدة نفسية تؤرقه وهو لايعرف عنها شيئا‏,‏ ولايريد ان يعترف بوجودها‏.‏

والموضوع في ذاته جديد‏,‏ ومثير‏,‏ ويستحق ان يكون جزءا من مشروع القراءة للجميع‏..‏لاننا نقدم المشروع علي انه وسيلة لتحقيق رقي الانسان وزيادة وعيه وادماجه في التطور الحضاري والثقافي العالمي‏,‏ كما نقدم المشروع علي انه استعادة لاهمية المعرفة للانسان الفرد وللمجتمع‏,‏ ونقدمه علي انه جزء من المشروع القومي الكبير لتحديث مصر واعدادها للقرن الحادي والعشرين‏,‏ ولكننا نكتشف الآن قيمة جديدة لهذا المشروع‏,‏ لها فائدة عملية ومباشرة علي كل انسان في الصحة والمرض‏,‏ وهي ان القراءة في ذاتها اصبحت في هذا العصر دواء لابد منه لعلاج الامراض‏,‏ وهي المصل الواقي من الاصابة بهذه الامراض‏,‏ ويكفي انها تشفي الانسان من مرض الجهل وهو المرض الاكبر‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف