جمال البنا وقبيلة «حدثنا» (2 - 2)

خاض جمال البنا معركة طويلة مع من أسماهم «قبيلة حدثنا» وكان يقصد بهم الذين يرددون الأحاديث المكذوبة التى تسئ إلى العقيدة وإلى المسلمين وتعطى الفرصة لأعداء الإسلام للنيل منه. وقد ناله الكثير من الأذى من هجوم جحافل هذه القبيلة عليه، ولكنه ظل يقدم الدليل بعد الدليل على صحة ما توصل إليه بعد عشرات السنين التى قضاها مع كتب التراث الخاصة بالتفسير والحديث وطبقات المفسرين وتاريخهم.
وكنت ألاحظ فى معارك الهجوم عليه أن هناك أسبابا أعلمها كانت تدفع فريقا بعينه إلى مناصبته العداء واختلاق المعارك معه بقصد إدانته والتشكيك فى أفكاره وفى مقاصده، وكانت هذه الادعاءات الظالمة أنه ينكر (السنة) وهى الركن الثانى للإسلام مع أنه لم يكن ينكر السنة ولا ينكر الأحاديث الصحيحة التى تتفق مع القرآن أولا ونتفق مع العلم والعقل ثانيا.وينكر هذا السيل ما ينسبونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويدعون أنها أحاديث وهى مليئة بالخرافات ولحرصهم على إسناد هذه الأحاديث إلى أسماء ضخمة استباحوا إسنادها إلى البخارى وأحمد ومسلم، وكان يرى أن ما تردده هذه «القبيلة» من أحاديث مكذوبة هى التى فرضت الشخصية النمطية للمسلم فى ذهن العالم، وجعلت المسلم المتأثر بهذه الأحاديث ينظر إلى الماضى ولا ينظر إلى المستقبل.
ويعتمد جمال البنا فى ذلك على تحذير ابن تيمية من «منقولات عن السلف مكذوبة عليهم» ورفض الإمام الشافعى للأحاديث التى يرددونها وتتعارض مع النص الصريح فى القرآن والادعاء والسنة يجوز أن تنسخ القرآن بحجة أن السنة وحى وأن الرسول لا ينطق عن الهوى، ولكن القضية ليست فيما قاله الرسول.. بل فيما يقوله أبناء هذه القبيلة التى تؤمن بصحة أحاديث غير صحيحة وتسندها إلى الرسول ويصدقهم العامة.
وقد خاض هذه المعركة قبل جمال البنا كل من ابن تيمية ورشيد رضا والسيوطى، قال رشيد رضا: «إن ما روى عن ابن عباس فى تفسيره أكثر موضوع لا يصح لأنه مروى من طريق الكذابين الوضاعين كالكلبى والسدى ومقاتل بن سليمان» وكرر السيوطى هذا الحكم وسبقهما فى ذلك ابن تيمية.
???
وكان دليله على صحة اتباعه لما نبه إليه ابن تيمية والسيوطى ورشيد رضا وغيرهم من كبار علماء الدين أن المسلمين الأوائل لم يتركوا أحاديث مكتوبة، وكانوا يعتمدون على الحفظ ومن كان يكتب بعض الأحاديث كان يحفظها ثم يمحوها أو يحرقها، وكانوا حريصين على عدم الإكثار من رواية الحديث بعد أن حذرهم الرسول بقوله (لا تكتبوا شيئا عنى، فمن كتب شئيا غير القرآن فليمحه، ومن كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده فى النار» رواه أبو سعيد الخدرى، وكان حرص الرسول كبيرا على أن يظل القرآن هو المرجع للمسلمين والخشية من أن يأتى زمن يحل فيه الحديث النبوى، محل القرآن، وأيضا مخافة النسيان الذى يؤدى إلى نوع من التبديل والتغيير غير المقصود، وتحسبا من أن يضع أعداء الإسلام أحاديث ينسبونها إلى الرسول لتشويه العقيدة والإساءة إليها، وقد حدث ذلك بالفعل.. وبعد انتشار الإسلام فى بلاد عديدة برز من «الموالى» معظم الفقهاء وأغلبية المحدثين حتى إن مؤسس قواعد اللغة العربية (سيبويه) لم يكن عربيا.. وفى «الامبراطورية الإسلامية» انفتحت الحضارة الإسلامية مع حضارات الشعوب التى دخلت فى الإسلام فترجمت كتب من الهند وفارس ثم ترجمت الفلسفة اليونانية، وشملت الدولة الإسلامية الكبرى شعوبا غير عربية من مختلف الأجناس، ولكل شعب منها القيم، والتقاليد والمعتقدات التى توارثها وكونت عقليته، ولذلك دخلت أفكار زرادشت ومانى، وفى مناخ الحرية فى الدول الإسلامية ظهرت مذاهب القدرية، والجبرية، والمرجئة، والخوارج، والشيعة إلى جانب أهل السنة، وظهر من النساء من تقرض الشعر، وتقول: أمكّن عاشقى من لثم خدى.. وأعطى قبلتى من يشتهيها.. وفى هذه المرحلة وضع ابن قتيبة كتابه (تأويل مختلف الحديث) وظهرت جماعة إخوان الصفا تقول إن الشريعة أفسدتها الضلالات ولا يصلحها إلا الفلسفة اليونانية! وفى هذه المرحلة أيضا تأثر الفكر الإسلامى بأفكار أرسطو ووصل الإعجاب به إلى حد أطلقوا عليه «المعلم الأول» وردد ابن رشد ما قاله أفلاطون وأرسطو وفى هذا المناخ ظهرت الأحاديث الموضوعة.
???
ومع اتساع الدولة الإسلامية وتعدد الشعوب وحضاراتها السابقة على الإسلام ظهرت مشكلات لم يعرفها مجتمع المدينة المحدود وكان لابد من ضبطها على أساس شرعى، والقرآن لا يعالج التفاصيل ويتركها للناس وفقا لظروف حياتهم، ولكن بدافع الرغبة فى أن تكون كل صغيرة وكبيرة محكومة بنص ظهرت أحاديث منسوبة إلى الرسول تتضمن أحكاما وقواعد أخلاقية تناسب هذه الدولة الجديدة وطبيعة الشعوب غير العربية التى أصبحت من مواطنيها، وظهر الاجتهاد فى الفقه، وكان للمسلم حرية اعتناق أى رأى من أى مذهب، إلى أن جاء عصر الانغلاق الفكرى والعقائدى مع حكم الاستبداد فكان القرار بإغلاق باب الاجتهاد والاكتفاء بالمذاهب الأربعة.. وخلال هذه الرحلة كانت الحاجة ملحة إلى البحث عن أحاديث للرسول ولم يكن موجودا إلا بعض تابعى التابعين من الجيل الثالث بعد جيل الصحابة وبحسن نية سجلوا كل ما سمعوه حتى بلغ ما جمعه البخارى مثلا مائة ألف حديث، وليس من المعقول أن يكون الرسول قد قرر أحكاما شرعية فى مائة ألف حديث.. وفى هذه المرحلة كان معروفا أن هذه الأحاديث من مجموعة أطلق عليها «الوضّاع الصالحون» لأنه لم يكن فى سلامة إيمانهم مطعن لأن دافعهم لذلك أنهم رأوا أن الناس انصرفوا عن القرآن وانشغلوا بالفقه فوضعوا أحاديث فى فضل كل سورة من القرآن، فمن حفظ سورة كذا بنى الله قصرا فى الجنة، ومن حفظ سورة كذا غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحين قيل لهؤلاء الوضّاعين: تكذبون على رسول الله؟ ردوا: بل نكذب لرسول الله، أى لصالح الدين، ثم جاء الإمام أحمد بن حنبل وهو أتقى فقيه فقرر ضرورة التسليم حتى وإن كان ظالما لأن الخروج على الحاكم يؤدى إلى الفتنة مع أنه تعرض لأبشع ألوان العذاب على يد الخليفة المأمون والخليفة المعتصم، وتابعه بعد ذلك الإمام الغزالى ليقرر ضرورة الطاعة لمغتصب السلطة مادام قد وصل إلى الحكم، وظهرت أحاديث مثل: «أطع الأمير وإن غصب مالك وضرب ظهرك»، وأحاديث لمواجهة شيوع المعصية عن عذاب القبر وغيرها كثير.. وسبقوا كل حديث بسلسلة من الرواة.. حدثنا فلان عن فلان عن فلان.. وأضيف إلى ذلك أن معاوية بدأ حكمه بأن أمر بسب الإمام على على المنابر فانطلقت قبيلة «حدثنا» تملأ الفضاء بأحاديث موضوعة عن سب الإمام علىّ وتوصية الرسول للمسلمين بطاعة معاوية وخلفائه.
???
القاعدة التى اتفق عليها علماء الحديث هى أن الحديث «الصحيح»» هو الحديث «المتواتر» الذى يتم التأكد من حيث الشكل من صحة سلسلة الرواة، ومن حيث المضمون بأنه لا يتعارض مع القرآن ومع العقل أو ما توصل إليه العلم وحددوا مراتب تبدأ بالحديث الصحيح ثم الحديث الحسن ثم الحديث الضعيف الذى تنقصه بعض شروط الحديث الصحيح والحديث الحسن، وأخيرا حديث الآحاد المنسوب إلى مصدر واحد، وفى جو الحماسة لجمع وترديد الحديث توسعوا فأخذوا بأحاديث منسوبة إلى الصحابة والتابعين مثل: حدثنا أبى بكر فقال، أو حدثنا عمر فقال، أو حدثنا علىّ فقال حتى وصلوا إلى أحاديث منسوبة إلى التابعين، وجمال البنا يأخذ على قبيلة «حدثنا» أنه لم يتم التحقق مع صحة تسلسل الرواة فى كل حديث نبوى إلا فى القليل، وينقل عن الإمام مالك قوله فى مقدمة كتابه «فتح البارى» قوله «كثير من الأحاديث ضلالة، ولقد خرجت منى أحاديث لوددت إنى ضُربت بكل حديث منها سوطين وإنى لم أحدث بها» وكذلك ابن قتيبة وهو من أكثر المتحمسين للمحدثين فإنه يقول «إنهم قد يعيبهم حملهم الضعيف وطلبهم الغرائب وجمعهم الغث والسمين والصحيح والسقيم». وروى عن البخارى: «أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتى ألف حديث غير صحيح».
???
ما كان يقصده جمال البنا من كل هذا العناء وكل هذه المعارك هو أن تقوم المؤسسات الدينية الإسلامية بالعمل على تنقية الأحاديث لتكون هذه خطوة لتجديد الدين وتخليصه مما اختلط به لكى يعود بسيطا نقيا كما كان فى البداية.. والقضية مطروحة على الدول وعلى علماء الدين الكبار فى العالم الإسلامى وهم أهل ثقة وقادون على القيام بهذه المسئولية.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف