أزمة القيادات

مع أزمة السيولة‏,‏ وأزمة الكساد‏,‏ وأزمة التصدير‏,‏ ورثت الحكومة الحالية أزمة أخري هي أزمة القيادات‏..‏ ومنذ بدأت الحكومة الحالية عملها كان ضمن الأولويات المحددة لها تجديد القيادات‏,‏ وضخ دماء جديدة للعمل العام‏,‏ وإعطاء الأجيال الجديدة فرصة للمشاركة في قيادة مواقع الانتاج والخدمات بفكر جديد‏,‏ وبروح جديدة‏...‏

وفي كل اجتماع من اجتماعات مجلس الوزراء تظهر نظرية جديدة لتحقيق هذا الهدف‏..‏ مرة يقرر المجلس إنشاء مركز لإعداد القيادات الجديدة‏,‏ ومرة أخري يقرر عدم التجديد للقيادات القديمة التي أنتهي عمرها الافتراضي‏,‏ والتي تسد الطريق أمام القيادات الجديدة‏,‏ ومرة يقرر منع الجمع بين أكثر من وظيفة قيادية لمنع الاحتكار في الوظائف والمواقع القيادية‏,‏ وأخيرا قرر مجلس الوزراء تعيين واحد أو أكثر من العناصر الشابة الواعدة في وظيفة جديدة تسمي مساعد أول الوزير يمارس بعض الاختصاصات الشكلية للوزير مثل حضور الاحتفالات‏,‏ والمناسبات العامة‏,‏ والاجتماعات الكثيرة التي تدخل في باب العلاقات العامة‏..‏ الخ‏.‏

والظاهر ان موضوع إفساح المجال للأجيال الجديدة لتولي المسئولية في مختلف المواقع أصبح مشكلة معقدة حتي يبدو ان إيجاد حل لها سوف يستغرق وقتا وجهدا طويلا جدا في مجلس الوزراء‏..‏ مع ان كل دول العالم تواجه هذا الأمر كحقيقة مفروغ منها من حقائق الحياة‏,‏ وتضع النظم والآليات الدائمة لاكتشاف العناصر الصالحة للقيادة‏,‏ وتعطيها الفرصة للتدريب واكتساب الخبرة من خلال إعطائها مسئوليات حقيقية‏,‏ واشراكها في إتخاذ القرار‏,‏ ودفعها لحضور الاجتماعات والمؤتمرات ذات الأهمية في الداخل والخارج‏.‏

والمشكلة الآن أن هناك شعورا يتزايد لدي الأجيال الجديدة بان الجيل القديم يسد عليه طريق التقدم‏,‏ ويتعمد أبعاده عن قصد عن دوائر الضوء‏,‏ وان كل من يتولي القيادة في موقع يتبع سياسة الأرض المحروقة بان يخلي المكان خلفه وحوله من كل من تظهر عليه بوادر الصلاحية للقيادة‏,‏ والذين يروجون هذه النظرية يستشهدون بالحالة القائمة الآن‏..‏ فرئيس الوزراء أعلن عند تشكيل الوزارة أنه وجد صعوبة كبيرة في العثور علي عناصر تصلح لتولي الوزارة‏,‏ حتي أنه استعان بقاعدة البيانات في مركز المعلومات للحصول علي قوائم باسماء الحاصلين علي درجة الدكتوراه في مصر وخبرات كل منهم‏..‏ ووزير الاقتصاد أعلن أكثر من مرة أنه مضطر للتجديد لكبار السن من رءساء البنوك لأنه لا يجد من يليهم في السن والدرجة من يصلح لهذه الوظائف‏..‏ ووزير قطاع الأعمال أعلن أنه مضطر لاختيار رؤساء شركات تجاوزوا السن القانونية لعدم وجود من يصلح بديلا لهم‏..‏

وأصبحت مثل هذه التصريحات تعلن في كل مناسبة حتي أوشكت ان تستقر كحقيقة من حقائق الحياة في مصر‏,‏ وكأن الله قد خلق جيلا واحدا يصلح للقيادة ولم يخلق بعده من يصلح لها‏,‏ أو كأن الحياة سوف تتوقف حين يأتي وقت لابد منه ويرحل هذا الجيل‏,‏ ويترك كل المواقع خالية علي عروشها‏,‏ ويتوقف دولاب العمل‏..‏

بهذا المنطق أصبح التجديد في الحياة العامة

بطيئا جدا‏,‏ ومحدودا جدا‏,‏ فالوجوه هي الوجوه في عضوية مجلس الشعب‏,‏ أو في قيادات البنوك والشركات والمؤسسات‏,‏ أو في الوزارات‏,‏ مع ان استمرار الشخص الواحد في موقع واحد لمدة أطول من الحد المعقول لابد وأن يكون لها اثارها السلبية علي آدائه واستعداده للتغيير وبذل الجهد‏..‏ ولها أيضا آثارها علي من وراءه الذين ينتظرون ان يتقدموا ويحققوا الطموح المشروع في الترقي والتقدم‏..‏ ولها أخيرا آثارها في فرض درجة من الجمود والرضا بما هو قائم ورفض التغيير والتجديد‏.‏

ومهما يقل من أن القيادات القديمة قد اكتسبت الخبرة بالعمل لسنوات طويلة‏,‏ أو أنها تتميز وحدها دون سواها بمقومات أو صفات القيادة وموهبة التنظيم والإدارة‏,‏ فان مسئولية هذا الجيل تجاه المستقبل تفرض عليه أن يعد الأجيال الجديدة لتولي القيادة غدا أو بعد غد‏.‏

ومايقال عن القيادات الإدارية يقال أيضا عن القيادات السياسية‏,‏ فالأحزاب القائمة أصابها الجمود جميعها‏,‏ ولم تعد مستعدة لإفراز قيادات جديدة في أي مستوي‏,‏ وكثيرا مايتم الخلط بين التكنوقراط والقيادات السياسية‏,‏ بحيث يتم اختيار قيادات سياسية من بين مهندسين أو أطباء أو مديرين ناجحين‏,‏ دون مراعاة للخلفية السياسية‏,‏ والعقلية السياسية‏,‏ وقدرات الاتصال السياسية‏,‏ وغير ذلك من لوازم النجاح في العمل الشعبي السياسي في كل مستوياته‏..‏ وحتي في اختيار الأحزاب لمرشحيها لمجلس الشعب يكون الاعتبار الأول للعوامل التي تساعد المرشح علي النجاح حتي ولو كانت هذه الاعتبارات قائمة علي العصبية والقبلية والقدرة علي كسب الأصوات بأي وسيلة‏,‏ ودون حساب للتاريخ السياسي أو القدرات السياسية للمرشح‏,‏ أو توافر شروط النيابة عن الشعب من قدرة علي التشريع‏,‏ والرقابة‏,‏ والتمثيل الصحيح للشعب كله وليس لأبناء دائرة معينة‏.‏

ومشكلة اختيار القيادات السياسية والإدارية مشكلة قديمة‏,‏ وأذكر أنها أثيرت منذ مايقرب من أربعين عاما في اجتماع للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي تحدث فيه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر طويلا عن ضرورة تجديد القيادات‏..‏ وأثير مرة أخري في بداية عهد الرئيس الراحل أنور السادات في إجتماعات متعددة لمجلس الوزراء ومؤتمرات الحزب الوطني‏,‏ وظل مثارا حتي اليوم‏,‏ ولم يتحول إلي سياسة دائمة ومستقرة ربما لأن القيادات الحالية لا يدخل ضمن تقويم أدائها وحسابها علي إنجازاتها ماعملته لاكتشاف عناصر جديدة صالحة للقيادة وإعطائها فرصة التدريب والنمو‏..‏ وربما لأن قاعدة اختيار أهل الثقة مازالت قائمة بشكل ما وتتراجع معها قاعدة الاختيار الموضوعي علي أساس الصلاحية والمقدرة والنجاح في العمل‏,‏ وربما لأن بعض الوزراء يختارون بعض المقربين للمناصب القيادية كنوع من المكافأة علي ماقدموه لهم من خدمات‏,‏ وفي غياب سياسة واضحة للاختيار والتقويم فان الاعتبارات الشخصية سوف تظل هي الغالبة‏.‏

ولكي نعيد إلي الأجيال الجديدة الثقة في نفسها‏,‏ ونعيد إليها الشعور بالانتماء‏,‏ والحماس للعمل والابتكار والتجديد‏,‏ فان المطلوب الآن ليس مجرد اختيار شخصي أو اثنين مع كل وزير ونترك له أن يمنح أو يمنع عنها فرصة العمل الحقيقي‏,‏ ولكن المطلوب وضع سياسة لاكتشاف القيادات‏,‏ واختيارها‏,‏ وتدريبها‏,‏ وإعدادها‏,‏ وتقويم أدائها علي أسس موضوعية بعيدة عن الاعتبارات الشخصية‏..‏ وإذا كان ذلك صعبا ففي إمكاننا أن ننقل حرفيا مايحدث في الدول الأخري التي تتميز بالتجدد والحيوية‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف