الجامعات و تواصل الأجيال

بدأت الخطوة الأولي لإصلاح التعليم الجامعي بإعداد مشروع قانون جديد تم اعداده بعد دراسات وحوارات شارك فيها اساتذة الجامعات وممثلون عن كل قطاعات المجتمع لكي يساير النظم العالمية من ناحية‏,‏ ولكي يعيد الانضباط والجدية والروح الجامعية‏,‏ ويصحح بعض الاوضاع غير المنطقية التي استقرت واستعصت علي الاصلاح نتيجة المقاومة الضارية

لكل تغيير او اصلاح من المستفيدين من الاوضاع الحالية ومن مصلحتهم تجميد الحياة الجامعية‏.‏ ومشروع القانون الجديد مطروح الآن يشارك فيه المجتمع‏,‏ باعتباره صاحب الحق الاول في الرقابة علي سائر المؤسسات بما فيها المؤسسة الجامعية‏,‏ وباعتباره صاحب المصلحة العليا في التغيير الي الافضل في اوضاع التعليم الجامعي التي اصبحت مثار شكوي‏..‏ بل مثار تذمر معلن من كل الاطراف‏:‏ الاسرة‏,‏ والطلبة‏,‏ والمسئولين عن قطاعات العمل التي تتلقي الخريجين بما اصبحوا عليه من ضعف المستوي‏,‏ وقلة الخبرة‏,‏ والانقطاع عن التطورات الحديثة‏,‏ وعدم القدرة علي تلبية احتياجات سوق العمل‏..‏ ويثير الجدل الآن النص الجديد في المشروع الخاص بتنظيم العمل داخل الجامعات والذي يجعل التدريس لطلبة الصفوف الاولي في الكليات وحتي البكالوريوس او الليسانس للاساتذة تحت الستين‏,‏ والتدريس في الدراسات العليا للاساتذة الاكثر خبرة وعلما ممن هم فوق الستين وحتي السبعين‏,‏ ويستفيد من الاساتذة بعد السبعين ـ بظروفهم الصحية‏,‏ وخبراتهم الكبيرة‏,‏ في الاشراف علي الابحاث العلمية ورسائل الماجستير والدكتوراه وهذا التنظيم مأخوذ عن جامعات الدول المتقدمة والنامية‏.‏ ويبدو ان هذا التنظيم مس مصالح شخصية لعدد محدود من الاساتذة فوق السبعين من اصحاب الصوت العالي‏,‏ والقادرين علي اثارة الزوابع وتقديم المصالح الشخصية في ثوب الموضوعية‏,‏ ومع ان عددهم قليل ولايزيد عددهم علي واحد في المائة من مجموع اساتذة الجامعات‏,‏ الا انهم قادرون علي فرض سطوتهم ليستمروا في التدريس في الصفوف الاولي لانها الاكثر عددا والتي يمكنهم تحقيق دخل كبير من بيع كتبهم لطلبتها‏,‏ كما يمكنهم الحصول علي انتدابات في اكثرمن كلية بصرف النظر عن انتظامهم او عدم انتظامهم في حضور المحاضرات‏,‏ وهذه هي الدوافع الحقيقية التي جعلت بعضهم يشتط الي حد اعتبار كل اصلاح وتطوير او تغيير في النظام الحالي الذي يستفيدون منه مذبحة لهم‏,‏ ويرفعون الشعار التقليدي بانهم يعاملون معاملة خيل الحكومة‏,‏ لانهم يريدون مزاحمة الشباب بلا نهاية‏!‏ والحقيقة ان التنظيم المقترح لايستهدف الا صالح المجتمع‏,‏ وصالح الجامعة‏,‏ وصالح الاساتذة ايضا‏:‏ الشيوخ والشباب علي حد سواء‏,‏ ويمكن الاشارة الي ذلك مبدئيا في نقاط سريعة ومن وجهة النظر المحايدة والموضوعية التي لاتتأثر بالمصالح المادية او بالاعتبارات الشخصية‏:‏

أولا‏:‏ ان المجتمع كله يشكو الآن حرمان اجيال الشباب من الحصول علي فرصة للعمل والمشاركة‏,‏ لان الشيوخ يحتلون المواقع والمقاعد ويستأثرون بالفرص‏,‏ ولايريدون ان يتركوا شيئا منها للتطور الطبيعي للحياة‏,‏ فالعمل الذي يحتاج جهدا لابد ان يكون للأقل سنا‏,‏ والعمل الذي يحتاج الي تراكم الخبرة والرسوخ في العلم‏,‏ والذي يحتاج الي قدرة علي العطاء والابوة الروحية هو بالقطع من نصيب الشيوخ‏..‏ وفي الجامعات الآن مئات من الاساتذة اوشكوا ان يصلوا الي سن الستين دون ان يجدوا الفرصة للتدريس‏,‏ وهذا شئ من الصعب تصديقه ولكن هذا هو مايحدث فعلا ويعلمه الجميع‏..‏ مئات الاساتذة ليس لهم جدول‏,‏ وبالتالي ليس مطلوبا منهم الحضور الي كلياتهم رغم انهم يحملون لقب استاذ فهم طاقة معطلة‏,‏ وقوة عمل متجددة يمكن ان تحرك السكون الحالي في الحياة الجامعية‏,‏ وتسهم بطاقتها الشابة في تجديد شباب الجامعات‏..‏ وهذا الوضع بين شيوخ الاساتذة وشبابهم اذا استمر اكثر من ذلك يمكن ان يتفجر ويظهر في شكل صراعات علنية لاتليق بكرامة الاستاذ الجامعي ولا بحرمة الحياة الجامعية‏,‏ ومن يحضر اجتماعات الاقسام والكليات يشهد معارك حقيقية تكاد تصل الي حد الاشتباك من اجل الحصول علي فرصة للتدريس‏..‏ في مثل هذا الجو هل من المصلحة العامة ان يبقي الاستاذ في التدريس للطلبة الصغار وهو فوق السبعين ام ان مكانه الطبيعي الذي يليق بسنه وبمكانته وبخبرته وعلمه ان يتفرغ لرعاية الاجيال الجديدة من الباحثين والعلماء ويشرف عليهم ويعطيهم من علمه وخبرته بما يتناسب مع ظروفه الصحية؟

ثانيا‏:‏ ان بعض شيوخ الاساتذة يعترضون علي النظام الجديد ويقولون صراحة انه سيؤدي الي نقص دخولهم‏,‏ مع ان مشروع القانون قرر لهم مزايا ليست لغيرهم من طوائف المجتمع‏,‏ مثل الحصول علي الفرق بين المعاش والمرتب والمكافآت والحوافز مضافا اليها مكافآت الاشراف علي الماجستير والدكتوراه وكذلك مكافآت مناقشة الرسائل‏,‏ وابقي لهم الحق في العلاج علي نفقة الجامعة هم وأسرهم في الداخل والخارج علي تفقة الجامعة‏..‏ فاي فئة في المجتمع تحصل علي مثل هذه المزايا‏..‏؟

ثالثا‏:‏ ان شيوخ الاساتذة هم الذين ارتفعت اصواتهم حين تقرر قصر عضوية لجان الترقية علي الاساتذة اقل من السبعين‏,‏ ومعني ذلك ان الشيوخ كانوا يريدون ايضا احتكار الحياة الجامعية بالكامل سواء في لجان الترقيات‏,‏ او في التدريس لصغار الطلبة ويقطعون الطريق امام الاجيال التي تطالب بحقها في العمل والعطاء‏,‏ وفي هذا اخلال بمبدأ تكافؤ الفرص‏,‏ واهدار لقيمة اساسية هي ضمان الاستقرار الاجتماعي والتقدم هي تواصل الاجيال داخل الجامعات‏,‏ فان احتكار الشيوخ للعمل الجامعي وحرمان الاجيال التالية يحرم هذه الاجيال الجديدة من النمو واكتساب الخبرة مما سيؤدي الي وجود فراغ خطير بعد ذلك عند رحيلهم بعد عمر طويل‏.‏

رابعا‏:‏ ان المجتمع كله يشكو الآن من عدم وجود صف ثان وصف ثالث‏,‏ وعدم وجود قيادات جديدة جاهزة‏,‏ وليس هناك سبب لذلك الا ان من يتولون الصفوف الاولي ويحتلون مواقع قيادة العمل في جميع المواقع ابتداء من البنوك والوزارات الي المدارس والجامعات يعملون بكل قوتهم علي الاستمساك بالمواقع التي يحتلونها‏,‏ ويبعدون كل من تلوح فيه بارقة امل او بادرة صلاحية لتولي العمل بعدهم‏,‏ وليس هناك من حل لهذه المعضلة الا بوضع نظام يضمن اعطاء الفرص للاجيال المتعاقبة لكي لايتغول جيل علي الاجيال التالية ويمنع نموه ويحرمه من حقه الطبيعي في الحياة والتقدم‏.‏

خامسا‏:‏ ان الاستاذ يبقي استاذا مدي الحياة‏,‏ هذه حقيقة‏,‏ ولكن في كل مرحلة من مراحل عمره لابد ان ينتقل الاستاذ الي العمل الذي يتناسب مع مكانته العلمية وخبراته وايضا مع قدراته المحكومة باعتبارات السن بالضرورة والمكانة الرفيعة ليست لمن يتولي التدريس لصغار الطلبة ولكن لمن يقودون حركة البحث والتقدم العلمي‏.‏ وان كانت المصالح الشخصية سوف تحكم الاصلاح الجامعي فسوف يطول بنا الانتظار‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف