مستقبل الموهبة و الموهوبين

كان مؤتمر الموهوبين في حقيقته اعتذارا عن السنين الطويلة التي لقي فيها الموهوبون في مصر الاهمال والتجاهل‏,‏ وضاعت علينا آلاف الفرص بسبب ذلك كان يمكن أن يظهر فيها عشرات من أمثال أحمد زويل ونجيب محفوظ وفاروق الباز ومجدي يعقوب‏,‏ الذين نجوا بأنفسهم وأخذوا فرصتهم بالرغم من الظروف المعاكسة وعوامل الاحباط وندرة الفرص‏.‏

كان هذا المؤتمر أيضا بداية جديدة لمرحلة جديدة بدأها الرئيس مبارك ببرنامج طموح لحماية ورعاية الموهوبين منذ سنوات عمرهم المبكرة‏,‏ وفي كل مجالات الابداع‏,‏ وكانت إشارة البدء من الرئيس الي كل مؤسسات الدولة‏,‏ بأن تعمل علي وضع إمكاناتها في خدمة الموهبة المصرية‏,‏ وتوفير المناخ الملائم لحمايتها من أعداء النجاح وأنصار الجهل‏,‏ وإفساح المجال أمامها بلا قيود للإبداع‏.‏ ولولا الاهتمام الشخصي من السيدة سوزان مبارك‏,‏ والمتابعة اليومية علي مدي شهور للإعداد لهذا المؤتمر لما جاء علي هذه الصورة الكاملة التي لم تحدث من قبل‏,‏ وقد وضعت السيدة سوزان مبارك هذا المؤتمر بكل الأعمال التحضيرية وكل الأعمال التنفيذية اللاحقة لانعقاده تحت رعايتها‏,‏ بل وقررت أن تعقد اجتماعات دورية لمتابعة تنفيذ ما انتهي إليه من توصيات وقرارات‏.‏ فهو إذن ليس مجرد لقاء لتبادل الآراء وإعلان النيات الحسنة‏,‏ ولكنه وقفة للتفكير والتخطيط والإعداد لعمل كبير ومستمر سوف تظهر آثاره في القريب‏.‏

والفكرة التي انطلقت منها السيدة سوزان مبارك في هذا المؤتمر هي أن وثيقة العقد الثاني للطفل المصري والتي ستنفذ بدقة خلال السنوات العشر القادمة‏,‏ امتدادا للعقد الأول الذي تحقق فيه الكثير لرعاية الطفل حتي انتهي من مصر نهائيا مرض شلل الأطفال‏,‏ وأمراض الطفولة التقليدية الأخري‏,‏ وتعددت صور الرعاية للطفولة من دور الحضانة‏,‏ والمكتبات‏,‏ والمدارس النموذجية ومدارس الفصل الواحد‏,‏ ومراكز الاستكشاف العلمي‏,‏ ومراكز رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة‏,‏ وامتدت الي رعاية الأمومة أيضا‏,‏ ثم ها هو العقد الثاني يبدأ بمشروع قومي لرعاية الموهوبين‏.‏

ومن الطبيعي أن يبدأ هذا المؤتمر الكبير البداية الصحيحة بطرح أسئلة تحدد المسار‏:‏ ما هي الموهبة‏..‏ ومن هو الموهوب الأولي بالرعاية‏..‏ وكيف نكتشفه‏..‏ وكيف نرعاه‏..‏ ومن أين التمويل اللازم لهذا المشروع الطموح‏..‏ ثم ماذا يعمل الموهوب بعد أن تتفتح مواهبه وتنضج قدراته وماذا نعمل به‏..‏؟

هذه الأسئلة وكثير غيرها شارك أكثر من‏300‏ أستاذ وخبير ومفكر ورجل أعمال‏,‏ وقادة أحزاب في الاجابة عنها‏,‏ وقبل المؤتمر عقد وزير التربية والتعليم د‏.‏ حسين كامل بهاء الدين ثلاثة لقاءات‏,‏ الأول حضره‏300‏ طالب‏,‏ والثاني حضره‏300‏ من العلمين‏,‏ والثالث حضره‏300‏ من الآباء‏,‏ وكانوا جميعا ممثلين لكل مراحل التعليم وكل محافظات الجمهورية‏,‏ وتجمعت آراؤهم مع الآراء التي انتهت اليه ورش العمل التي تفرغ لها الفنيون والخبراء‏,‏ وصدرت في ستة مجلدات كانت بين أيدي أعضاء المؤتمر‏..‏ وبعد الجلسات العامة عقدت جلسة موسعة لمائدة مستديرة ضمت أكثر من ثلاثين مفكرا وخبيرا‏,‏ وقاد المناقشات بديمقراطية ومقدرة أستاذنا الدكتور مصطفي كمال حلمي رئيس مجلس الشوري ونقيب المعلمين‏.‏

هو إذن ليس مؤتمرا ككل المؤتمرات سواء في تنظيمه الدقيق‏,‏ والاعداد الجيد له الذي أشرف عليه الدكتور حسين كامل بهاء الدين باعتباره مقرر المؤتمر‏,‏ وليس ككل المؤتمرات اذا وضعنا في اعتبارنا الجدية وتوافر الارادة في تحويل نتائجه الي منهج عمل وتوفير آلية للتنفيذ والمتابعة‏.‏ وليس كغيره لأنه لم يكتف بالخبرات المصرية ولكنه أشرك الخبرات الدولية من خبراء اليونسيف واليونسكو والجامعات والمراكز العالمية التي سبقتنا في هذه المجالات‏.‏

الهدف هو ألا نترك الموهوبين للمصادفة‏,‏ وأن نجعل مجالات ظهورهم وتنميتهم كافية‏,‏ مادمنا قد بدأنا في العمل لتحقيق نهضة تكنولوجية وحضارية‏,‏ بدأناها بتطوير التعليم‏,‏ وها نحن علي وشك أن نبدأ في تطوير التعليم الجامعي ومراكز البحث العلمي‏,‏ ومن اللازم أن نعد الأجيال القادمة من العلماء والمفكرين والأدباء والفنانين صناع النهضة وبناة الحضارة وقاطرة التقدم الحقيقية في كل مجتمع وكل عصر‏.‏

والموهبة يمكن أن تضيع في الزحام‏,‏ ونفقدها بالاهمال وعدم التقدير‏,‏ كما يمكن أن توجه توجيها خاطئا فتنحرف‏,‏ ومن الممكن أيضا اكتشافها مبكرا‏,‏ ورعايتها رعاية سليمة وتعهدها بالصقل والتشجيع وإعطائها فرص التقدم والنمو‏,‏ وبذلك نكسب كثيرا‏..‏ ونكسب أكثر اذا نظرنا الي الطفل الموهوب نظرة تكاملية تضع في اعتبارها احتياجاته النفسية والاجتماعية والاقتصادية ولا تقتصر علي التركيز علي موهبته وحدها‏,‏ لان القضية قضية الانسان ككل‏,‏ ولايمكن رعاية موهبة بمعزل عن رعاية الانسان ذاته صاحب الموهبة‏.‏

وكثيرا ما نردد أن الموهوبين في كل أمة هم ثروتها الحقيقية‏,‏ وان مكانة الدول في العالم تتحدد بمقدار مافيها من الموهوبين حتي ان الدول لا تكتفي بثروتها الطبيعية منهم‏,‏ ولكنها تسرق الموهوبين من كل أنحاء العالم وتضيفهم الي رصيدها‏,‏ وكان حظنا دائما بالسالب‏..‏ تظهر الموهبة عندنا فيسرقها غيرنا وتسهم في صناعة حضارة وتقدم خارج وطنها‏..‏ الآن نريد أن تكون هذه الثروة البشرية لخدمة وطنها‏,‏ وتساهم في تقدمه‏,‏ ونريد لذلك أن نحقق خطوات ضرورية‏:‏

أولا‏:‏ أن يغير الإعلام من فلسفته وبدلا من الاقتصار علي تقديم الموهوبين في كرة القدم والتمثيل والرقص وحدهم يعمل علي تقديم نماذج من الموهوبين في العلوم والآداب والفنون وما أكثرهم‏,‏ لكي يزرع القدوة والنموذج ويستثير في داخل الأطفال والشباب مالديهم من مواهب كامنة‏.‏

ثانيا‏:‏ أن الدول الكبري تقدمت لأنها أنشأت مراكز لرعاية الموهوبين‏,‏ يلتحق بها الموهوبون فيجدون خبراء في التربية وفي فروع التخصص فيتولون رعايتهم رعاية شخصية وخاصة علي أسس فنية وعلمية تساعدهم علي النضج والابداع‏..‏ وتتوافر في هذه المراكز كل الأدوات والأجهزة وهي ليست كثيرة ولا باهظة التكاليف‏,‏ ولكنها تحتاج أساسا الي عدد من الخبراء المخلصين والجادين الذين يجدون متعة شخصية في رعاية الآخرين‏,‏ وهذه القدرة الخاصة علي العطاء موجودة أيضا وتحتاج الفرصة‏,‏ ولابد أن نسارع بإنشاء هذه المراكز في القاهرة والمحافظات ولن يكون التمويل عقبة بعد أن أعلن بعض رجال الأعمال استعدادهم للمساهمة‏.‏

ثالثا‏:‏ ان مشكلة المشكلات بالنسبة للموهوبين هي أن الفرص في المجتمع قليلة‏,‏ فلو ظهر مائة كاتب‏,‏ أو مائة موسيقي‏,‏ أو مائة عالم‏,‏ فماذا يفعلون‏,‏ وماذا نفعل بهم‏..‏ والموهبة ككل شيء تخضع للعرض والطلب‏..‏ فإذا كان الطلب علي الموهوبين محدودا فسوف يؤدي ذلك الي نقص العرض‏,‏ واذا زاد الطلب فسوف يزيد العرض‏..‏ أي ان زيادة المجالات التي تحتاج الي الموهوبين سيسهم في زيادة أعداد الموهوبين في المجتمع‏..‏ وهذه ـ في رأيي ـ هي القضية الأولي والأخيرة‏..‏ هل يحتاج المجتمع الي الموهوبين‏..‏ وبأي قدر‏..‏ وفي أي المجالات‏..‏ واذا حددنا ذلك فسوف نحدد مستقبل الموهوبين في بلدنا‏.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف