جامعات هنا و هناك

في مصر‏14‏ جامعة تضم أكثر من مليون طالب يمثلون‏25%‏ من الشباب في سن التعليم الجامعي‏..‏ وهناك من يري أن لديناجامعات أكثر مما يجب فلا نحتاج إلي مزيد بينما المعايير العالمية تشير إلي أن أي دولة متقدمة لا تقل الجامعات فيها عن جامعة لكل مليون مواطن من سكانها‏.‏

وحتي تركيا‏,‏ وهي دولة نامية‏,‏ فيها الآن‏72‏ جامعة‏,‏ بينما يقاوم البعض بقوة ومنذ سنوات تحويل فروع الجامعات الحالية إلي جامعات مستقلة لتستكمل عناصر النضج وتؤدي دورها كاملا‏.‏

وفي الولايات المتحدة عشرات الجامعات المفتوحة‏,‏ وعندنا توضع العراقيل أمام التوسع في التعليم المفتوح والتعليم عن بعد‏,‏ ومازالت فكرة إنشاء جامعة مصر المفتوحة تتعثر منذ سنوات رغم تكرار الإشارة إلي قرب ظهورها إلي حيز التنفيذ‏,‏ ورغم توصية المؤتمر القومي لتطوير التعليم العالي بالإسراع في إنشائها بمشاركة مؤسسات التعليم العالي واتحاد الإذاعة والتليفزيون والجهات ذات الصلة بتكنولوجيا إنتاج المواد التعليمية والوسائط المتعددة‏.‏

ويبدو أننا سنظل طويلا علي عاداتنا في الفصل بين القول والفعل‏,‏ والا فيكفي أن ننظر إلي مايقال ومايحدث فعلا لنري إن كان الفعل مطابقا أو مقاربا للقول‏,‏ أم أن القول والفعل كل منهما في إتجاه عكس الآخر‏...‏ ففي مجال القول يتكرر الوعد بإعداد خريطة جديدة لمنظومة التعليم العالي تراعي التوزيع الجغرافي والحجم الأمثل للكليات والمعاهد‏,‏ واحتياجات كل إقليم وخطط تنميتها‏,‏ والتوزيع السكاني فيها‏..‏ ويلتزم فيها بالضوابط التي تنظم إنشاء الكليات والمعاهد باستيفاء جميع المقومات المادية والبشرية والتعليمية‏,‏ والاعتراف بعدالتأكد من سلامة تنفيذ وجودة العملية التعليمية‏,‏ والمراجعة السنوية للكليات والمعاهد التي سبق اعتمادها كل ثلاث سنوات للتأكد من استمرار التزامها بشروط الاعتماد ومقومات الاعتراف في حالة المخالفة يسحب منها الاعتماد‏..‏ أما مايحدث فهو مختلف‏..‏ وهناك كليات لا يتوافر فيها شرط واحد من شروط الصلاحية‏..‏ لا من حيث المكان‏..‏ ولا توافر أعضاء هيئات التدريس‏..‏ ولا المكتبات‏..‏ ولا التدريب‏..‏ بل إن هناك كليات ليس فيها أستاذ واحد وليس فيها مدرج واحد يكفي طلبة صف واحد من طلابها‏..‏ ومع ذلك فهي قائمة ومستمرة وتخرج كل سنة مئات يحملون شهادات جامعية‏,‏ ولا يجيدون مهنة أو عملا أو وظيفة‏..‏ مئات من خريجي كليات تربية ليس فيها استاذ واحد‏..‏ ومئات من خريجي أقسام الإعدام في كليات متعددة ليس فيها أساتذة ولا يجدون مجالا للعمل بعد التخرج حيث تعاني وسائل الإعلام الحالية من التكدس وزيادة العمالة‏,‏ وليست هناك مجالات جديدة أو فرص عمل جديدة لتستوعب كل هذه الأعداد‏..‏

وكل جامعات العالم لا يسمح بمنح درجتي الماجستير والدكتوراه إلا للكليات الجامعية المعترف بها التي تتوافر فيها القدرات والإمكانات العلمية والتجهيزات والأساتذة‏,‏ وعندنا فان الكليات التي تشكو من عدم وجود أساتذة تسجل وتمنح الماجستير والدكتوراه‏,‏ هذا هو السبب في لجوء الكثيرين من ذوي القدرات العلمية المتوسطة الي هذه الكليات للحصول منها علي هذه الدرجات العلمية الرفيعة دون تدقيق‏,‏ وفاقد الشيء لا يعطيه‏,‏ وفي الوقت نفسه فلا أحد يمنع‏,‏ أو يحاسب‏,‏ وبعد سنوات ينسي الجميع من أين حصل صاحب الدكتوراه علي هذه الدرجة‏,‏ وكيف وماهي القيمة الحقيقية للبحث العلمي الذي قدمه لنيل هذه الدرجة؟‏,‏ ويبقي اللقب والحق في التعيين في وظائف هيئات التدريس‏,‏ ويتساوي الحاصل علي الدكتوراه الحقيقية‏,‏ والحاصل علي الدكتوراه المشكوك في صلاحيتها‏,‏ وفي غياب ترتيب موضوعي للجامعات المصرية‏,‏ كما يحدث في جامعات أوروبا وأمريكا‏,‏ يتساوي الجميع وتضيع المعايير العلمية‏.‏

وفي جامعاتنا لا نسمع إلا الشكوي من نقص الاعتمادات المالية‏,‏ لأن كل الجامعات ليس لها إلا مصدر تمويل واحد هو الدولة‏,‏ بينما الجامعات الأمريكية مثلا تعتمد أساسا علي إسهامات كبيرة من الشركات ورجال الأعمال والجمعيات والمنظمات الأهلية‏,‏ كما تعتمد علي تمويل الشركات الصناعية للأبحاث العلمية التي تساعدها علي تطوير إنتاجها‏,‏ فشركات الأدوية‏,‏ ومصانع السلاح‏,‏ تدفع مئات الملايين من الدولارات لتمويل الأبحاث التي تجري في الجامعات ومراكز البحث العلمي لتطوير منتجاتها أو نظم الإدارة فيها‏,‏ وتطلب استشارات لحل المشكلات التي تواجهها في العمل‏,‏ وتعمل الجامعات كبيوت خبرة لهذه المصانع والشركات‏,‏ ولكن ذلك لا يحدث في جامعاتنا‏.‏

وفي بحث قدم في المؤتمر القومي لتطويرالتعليم العالي أجمع المسئولون في قطاعات الإنتاج والخدمات علي هبوط مستوي الخريجين‏,‏ وهذا هو السبب الأول لارتفاع نسبة البطالة‏,‏ ليس لزيادة الأعداد فقط‏,‏ ولكن أيضا لنقص الكفاءة والصلاحية‏,‏ ونسبة كبيرة من الطلاب أنفسهم ذكروا في هذا البحث أنهم لا يستفيدون مما يتعلمونه‏,‏ وبعضهم عبر عن الشعور بعدم جدوي التعليم‏,‏ وأولياء الأمور أيضا عبروا عن عدم رضاهم لأن أبناءهم لم يطرأ عليهم تغير يذكر نتيجة التحاقهم بالجامعة‏,‏ ويدعو إلي العجب أن نتائج هذا البحث أشارت إلي عدم رضا الأساتذة عن الضعف الظاهر في مستويات الخريجين‏,‏ وقالوا إن عدم كفاءة منظومة التعليم الجامعي تسبب قاقا لدي المؤسسة الجامعية ذاتها‏..‏ والنتيجة أن الجامعات في الخارج لا تعترف بكثيرمن الشهادات التي تمنحها الجامعات المصرية‏,‏ لفقدان المصداقية‏,‏ وتدني مستوي الخريجين بأي مقياس بالمقارنة بأقل المستويات العالمية‏.‏

وإذا كنا نريد حقا إصلاح التعليم الجامعي فلابد أن نحول القول إلي فعل‏,‏ ونبدأ بتكوين جماعة خبرة تكون بمثابة عقل الأمة من العلماء والمفكرين ورجال الأعمال والنقابات المهنية والجمعيات العلمية لوضع معايير الجودة للجامعات‏,‏ وإيجاد قبة جامعية مسئولة عن مراقبة الجودة في الأداء الجامعي في كل قسم‏,‏ وكل كلية‏,‏ وكل جامعة‏,‏ وفقا لمعايير موضوعية‏,‏ لا تسمح للمجاملات والعلاقات الشخصية بالتدخل في الحكم كما هي العادة‏,‏ وبالإضافة إلي ذلك نحتاج إلي مؤسسة قومية مستقلة غير حكومية‏,‏ بها سلطة قانونية في تحديد مستويات الجودة في الكليات والمعاهد وهي التي تملك صلاحية الاعتماد أو الإؤجازة كما يحدث في الدول المتقدمة‏,‏ وهي التي تقرر إن كان خريج الطب أو الهندسة أو الزراعة أو التربية أو اللغات في هذه الكلية أو تلك علي مستوي يسمح له بممارسة المهنة أم لا‏..‏ وتستخدم هذه المؤسسة ذات المعايير التي تستخدمها الجامعات في مختلف دول العالم‏,‏ وتكون علي اتصال بنظيرتها في كل دولة من هذه الدول‏,‏ حتي تعيد الاعتبار لبعض الشهادات التي تمنحها الجامعات المصرية‏,‏ وتحقيق الاعتراف المتبادل بين الجامعات المصرية والجامعات الأخري‏,‏ وهو الشيء المفقود حاليا‏.‏

في بريطانيا وأمريكا واليابان يتبعون هذه النظم لمراقبة المستويات التعليمية عن طريق مؤسسات مستقلة غير حكومية تدعمها الدولة‏,‏ ومن ذلك وكالة ضمان الجودة في التعليم العالي في بريطانيا التي تنشر تقاريرها الدورية التي يخضع لها الجميع‏,‏ وتحدد فيها مستوي كل جامعة‏,‏ وتضع توصياتها لتطوير التعليم الجامعي‏..‏ وفي ضوء هذه التقارير الموثوق في دقتها ونزاهتها وحيادها تتأكد الثقة العامة في الجامعات محليا وعالميا‏,‏ وتتخذ مؤسسات التمويل قراراتها علي أساسها‏,‏ ويتعرف الطلبة وأصحاب الأعمال والمسئولون في الجامعات ذاتها علي المستوي الذي وصلت إليه كل كلية وكل جامعة صعودا أو هبوطا‏.‏ وتتأكد الثقة في الشهادات التي تمنحها‏.‏

لقد أفادنا المؤتمر القومي لتطوير التعليم العالي كثيرا في معرفة مكاننا الحقيقي في العالم‏,‏ وفتح عيوننا علي ضرورات التغيير الشامل والعاجل‏,‏ وكشف لنا ان المهمة صعبة وتحتاج الي جدية وجهد من كل مؤسسات المجتمع‏.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف