مستقبل الجامعة (5)

تحدثنا كثيرا عن ضرورات التعليم الجامعي الجيد لإعداد اجيال جديدة من المصريين للتعامل مع العصر الجديد الذي يحمل في طياته مخاطر قاتلة للشعوب المتخلفة‏..‏ ومضي أكثر من نصف قرن ونحن نردد شعارات إصلاح الجامعات وأساليب الدراسة فيها‏,‏ ومازلنا حتي الآن في مرحلة الكلام والإعداد والاستعداد ولم نبدأ الخطوة الأولي لاصلاح التعليم العالي‏,‏ بل ولم نحدد حتي الآن ماهي الخطوة الأولي‏!‏

ونتيجة فهم خاطيء لمبدأ استقلال الجامعات تركت شئون الجامعات للجامعيين وحدهم‏,‏ دون تدخل حقيقي من الدولة أو من المجتمع‏,‏ فتحولت الجامعات الي جزر مستقلة معزولة‏,‏ وأدي هذا الانفصال بين الجامعة والمجتمع الي ان سوق العمل تحتاج إلي نوعيات من الخريجين والجامعات بنظمها الحالية غير قادرة علي توفير هذه الاحتياجات‏,‏ فأصبح لدينا خريجين لا يحتاجهم المجتمع‏,‏ وخريجون يحتاجهم المجتمع ولا يجدهم‏,‏ ومن هنا ظهر الاحتياج إلي جامعات أجنبية في مصر وجامعات خاصة دليلا علي قصور الجامعات الحالية‏.‏

والحقيقة ان الجامعات المصرية تطلب من المجتمع أن يدعمها بالأموال فقط‏,‏ ولكنها لا تؤمن بديمقراطية الإدارة الجامعية‏,‏ أو بالمشاركة الشعبية في وضع سياسات وإدارة الجامعات‏,‏ كما يحدث في كل جامعات الدول المتقدمة‏..‏ رجال الصناعة لا يشاركون في تخطيط برامج البحوث وخطط الدراسة‏..‏ ورجال القضاء والمحاماة لا شأن لهم بما يجري في كليات الحقوق إن كان متفقا مع مواصفات إعداد القاضي أو المحامي الصالح للحياة العملية أم لا‏..‏ وكليات التربية تعمل وحدها بمعزل عن وزارة التربية والتعليم مع أنها تعد خريجين لا يصلحون لعمل غير مهنة التدريس في مدارس وزارة التربية والتعليم‏..‏ ومع ذلك فليس لهذه الوزارة مشاركة في مناهج وبرامج اعداد مدرس المستقبل او ابداء الرأي فيما اذا كان صالحا او قادرا علي تنفيذ خطط وبرامج الوزارة أم لا‏..‏ وهكذا سائر الكليات‏..‏

كل ماتطلبه الجامعات هو مزيد من الأموال ومزيد من المباني والأجهزة دون أن تسمح لأحد بأن يسألها لماذا‏..‏ أو يحاسبها‏.‏ ان كانت قد احسنت الاستفادة بالأجهزة والمباني والمعامل التي لديها ام لا‏..‏ وكل ما يطلبه الاساتذة هو تحسين أوضاعهم المالية دون ان يتقبلوا ان يسألهم أحد ان كانوا يقومون بدورهم وبمسئولياتهم علي نحو مقبول ام لا‏..‏

وهذه المسألة هي نقطة البداية في اصلاح الجامعات‏,‏ لأنها تتعلق بحق المجتمع في المشاركة في الادارة والرقابة والمحاسبة‏..‏ وحق المجتمع مقرر علي سائر المؤسسات دون استفتاء‏..‏ ولكن هذا الحق لا يمارسه المجتمع بالصورة التي ينبغي ان تكون عليها‏,‏ ومن هنا انتشر التسيب في الجامعات وتحولت الي مجرد مدارس لتحفيظ بعض المعلومات وقتل قدرات الإبداع والبحث العلمي الحقيقي‏.‏

ومنذ سنوات طويلة والجميع يتحدثون ـ الي حد الملل ـ عن ضرورة الأخذ بنظم الدراسة الحديثة‏,‏ وبالتحول من اسلوب المحاضرات الي نظام الساعات المعتمدة المعمول

به في سائر جامعات الدول المتقدمة التي تعلم فيها اساتذة الجامعات المصرية‏,‏ وكثيرا ما تحدثنا ـ إلي حد الملل ـ عن الفجوة التكنولوجية التي تزداد اتساعا بيننا وبين الدول المتقدمة مع التقدم الهائل في الاكتشافات والاختراعات العلمية‏,‏ وتحدثنا ـ إلي حد الملل ـ عن المخاطر القادمة من عولمة التجارة‏,‏ والشركات العملاقة عابرة القارات والحدود والجنسيات الكاسحة للكيانات الوطنية الصغيرة والمتخلفة في الادارة والتكنولوجيا‏..‏ وتحدثنا ـ إلي حد الملل ـ عن خطورة المنافسة العالمية التي ستؤدي إلي زيادة تخلف وعزلة الدول النامية اذا لم تسارع وتلحق بالصاروخ المندفع نحوالعولمة والهيمنة وصراع القوي والبقاء للاصلاح‏..‏ ومع ذلك فمازلنا نردد نفس الاقوال دون ان نبدأ الخطوة الاولي‏..‏ أو حتي نحدد ما هي الخطوة الاولي‏.‏

ومع ان لدينا صفوة من العلماء والاساتذة في الجامعات المصرية يعلمون جيدا ان كل هذه المخاطر لا يمكن النجاة منها الا بثورة في التعليم الجامعي‏..‏ ثورة وليس مجرد تطوير أو اصلاح‏..‏ ثورة بمعني التغيير الشامل الكامل في كل شيء‏..‏ في اعادة تأهيل الاساتذة‏..‏ واعادة الاساتذة الي العمل داخل الجامعة متفرغين‏..‏ واعداد مناهج جديدة قريبة من مناهج الجامعات المتقدمة في اوروبا والولايات المتحدة‏..‏ وتغيير نظم الامتحانات‏..‏ وتركيز اكثر عن العلوم التي تصنع التقدم التكنولوجي بدلا من التوسع الحالي في العلوم النظرية‏..‏ والمبعوثون للدكتوراه في الخارج في الكليات العملية تصدمهم حقيقة ان العلوم الاساسية التي درسوها في الجامعات المصرية اقل مما يجب فضلا عن انها قديمة ولا تساير التطور الذي لحق بهذه العلوم في السنوات الاخيرة‏,‏ ولذلك يقضون سنة أو سنتين في دراسة مواد مقررة علي طلبة البكالوريوس قبل ان يسمحوا لهم بالبدء في الدراسات العليا‏..‏ وكان هناك اتفاق في المؤتمر القومي لتطوير التعليم العالي علي ان مستوي الخريجين عندنا اقل بكثير من مستوي اقرانهم في الجامعات المتقدمة وخصوصا في الرياضيات‏,‏ والفيزياء‏,‏ والبيولوجيا‏,‏ والكيمياء‏..‏ الخ‏..‏

وغريب ان الجميع يتحدثون عن النهضة التكنولوجية في مصر ومع ذلك فالتوسع مستمر في كليات غير تكنولوجية‏..‏ وعشرات الالاف من الطلبة الجدد يضافون إلي كليات الحقوق والاداب والتجارة ليزداد طابور العاطلين‏..!‏

وتتحدث عن تقسيم الجامعات الكبيرة إلي جامعات اصغر يسهل ادارتها وتحسين مستواها‏..‏ وعن تحويل فروع الجامعات الحالية إلي جامعات مستقلة‏,‏ ولكن التنفيذ يتوقف عن اصحاب المصالح في ابقاد الوضع علي ما هو عليه‏..!‏ كما تتحدث منذ سنوات عن قانون جديد موحد للجامعات ومازلنا نتحدث عنه‏..‏ ونتحدث عن ضرورة وضع نظام لحساب وتقويم الاستاذ الجامعي وتحديد واجباته ومدي التزامه بادائها كما يحدث في كل جامعات العالم ومازلنا نكرر نفس الحديث‏..‏

وتتحدث كثيرا جدا عن ضرورة اضافة سنة تمهيدية للتعليم الجامعي لاعداد الطالب للدراسة الجامعية الجيدة‏,‏ كما نتحدث عن تغيير نظام تعيين الاساتذة بالاخذ بالنظم المعروفة في امريكا واوروبا بالاعلان والمنافسة واختيار الاكفأ واستمرار التعيين مرهون باستمرار الصلاحية والالتزام‏..‏ وتتحدث عن التدريب المستمر لاعضاء هيئات التدريس‏..‏ وتتحدث عن هزة في الادارة الجامعية‏.‏

ولقد تحدثنا كثيرا جدا فمتي نبدأ العمل للخروج من حالة الجمود الجامعي الحالية‏..‏؟‏!


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف