مستقبل الجامعة (3)

أهم ماخرجت به من مناقشات المؤتمر القومي لتطوير التعليم العالي في مصر ان كثيرا من الأفكار السائدة التي نؤمن بها ونرددها غير صحيحة‏,‏ واننا لم نضع هذه الأفكار الشائعة موضع الاختبار ولم نعط انفسنا فرصة المراجعة وإعادة النظر‏.‏

مثلا نردد دائما مشكلة التعليم الجامعي الأولي هي نقص الاعتمادات والموارد المالية‏,‏ ونلقي المسئولية دائما علي الدولة ونطالبها بالا تبخل علي التعليم الجامعي‏,‏ وظهر بالارقام ان ما تخصصه الدولة من اموال ليس قليلا‏,‏ ولكن المشكلة تكمن في كيفية ادارة هذه الاموال المتاحة‏,‏ وفي اسلوب الجزر المستقلة التي تجعل كل استاذ‏,‏ وكل قسم‏,‏ وكل كلية‏,‏ وكل جامعة‏,‏ جزيرة مستقلة‏,‏ ليس بينها صلة‏,‏ أو حوار‏,‏ أو تنسيق‏,‏ أو تكامل كما يحدث في الدول الأخري‏.‏

الإدارة الجامعية وتجعلها تلقي بأموال كثيرة في شراء أجهزة تكنولوجية حديثة بأكثر من الحاجة الفعلية‏,‏ ودون إهتمام بتشغيل هذه الأجهزة والاستفادة منها باقصي درجة‏,‏ وكل كلية‏,‏ بل كل قسم‏,‏ واحيانا كل استاذ بطالب بهذه الأجهزة‏,‏ فيكون التكرار‏,‏ والاسراف‏,‏ وكثير من الأجهزة الالكترونية مكدس في معامل‏,‏ لا يتم استغلالها الاستغلال الأمثل‏,‏ ومرة يزداد الحماس لشراء أجهزة كمبيوتر حديثة‏,‏ ومرة أخري يتم شراء أجهزة الليزر بأكثر من الاحتياج‏,‏ ومرة تسدل نظرية ان تفوق كليات الطب يقاس بعدد الأجهزة والمعامل من أحدث طراز‏,‏ والخلاصة ان الجامعات المصرية فيها أجهزة كثيرة‏,‏ وحديثة‏,‏ ولكنها لاتعمل بكامل طاقتها‏,‏ اولا‏,‏ وليس هناك أي تنسيق بين اقسام الكلية الواحدة‏,‏ أو بين أساتذة القسم الواحد‏,‏ أو بين كليات الجامعة الواحدة‏,‏ للاستفادة بهذه الأجهزة التي يمكن ان ينتهي عمرها الافتراضي‏,‏ أو يتقادم بها العهد لظهور أجهزة أحدث وأكثر تطورا‏,‏ فنحن نلهث وراء الشراء والاقتناء ولا احد يحاسب ماذا فعلنا بكل هذه الأجهزة التي تكلفت مئات الملايين من الدولارات ؟‏!‏

واندهشت حين سمعت باحة أمريكية شابة تبدي ملاحظة عابرة ولكنها وصلت بها إلي جوهر المشاكل كلها‏..‏ قالت انها وجدت مكتبات الكليات الي جماعية كلها تشكو من نقص الاعتمادات المالية‏,‏ ونقص الكتب والمراجع الحديثة‏,‏ وعدم الاشتراك في المجلات والدوريات العالمية ليتابع الاساتذة وطلبة الدكتوراه والماجستير الابحاث العلمية الجديدة في مجالات تخصصهم‏,‏ ولكنها حين طافت بعدد من المكتبات اكتشفت ان معظم المراجع والدوريات التي يشكو من عدم وجودها اساتذة كلية موجودة في كلية أخري في نفس الجامعة‏,‏ أو في جامعة أخري‏,‏ ولكن ليس هناك وسيلة لتيادل المعلومات أو الاستفادة المشتركة والتعاون في هذا المجال‏,‏ وقالت لي ان الطالب أو الاستاذ في أي كلية أمريكية يستطيع ان يطلب كتابا من أي مكتبة في أي كلية أخري في أي ولاية بالانترنت فيصل اليه الكتاب علي سبيل الاعارة لمدة أسبوعين يمكن مدها أسبوعين آخرين‏,‏ ثم يترك الكتاب في مكتبة كليته فيرجع تلقائيا إلي مكتبة الكلية التي أرسلته‏,‏ وهكذا فكل كتاب وكل مرجع ليس ملكا لقسم أو كلية‏,‏ ولكنه ملك لكل طلبة الولايات المتحدة‏,‏ فالمشكلة ليست الفقر ولكن انعدام التنسيق‏,‏ أي فقر الفكر كما كان يقول يوسف ادريس‏.‏

وقالت هذه الباحثة أيضا انها اكتشفت اعدادا هائلة من الأبحاث التي نال عليها اصحابها الماجستير والدكتوراه مكررة بذاتها في الموضوع‏,‏ والتحليل‏,‏ والنتائج‏,‏ مع تغيير في عنوان البحث وأحيانا بنفس العنوان‏,‏ رغم ان كل طالب يقدم توقيعات المسئولين في كل الكليات من الجامعات الأربع عشرة بأن موضوع هذا البحث لم يسبق تقديمه‏,‏ وهذه الاقرارات شكلية يوقعها الموظفون دون مراجعة‏,‏ ولا احد يسأل‏,‏ أو يحاسب‏,‏ والنتيجة تكرار الابحاث‏,‏ واحيانا نقل الابحاث القديمة وتقديمها من جديد‏,‏ لأنه لا أحد يتابع ولا احد يدقق‏,‏ ولا احد يحاسب‏,‏ وغالبا مانكتفي بالحديث عن هذه الظاهرة ونقول انها من الظواهر المؤسفة التي تدل علي غياب الضمير العلمي‏,‏ أو الامانة العلمية‏,‏ أو روح البحث العلمي الحقيقي‏,‏ ونحن بارعون في التشخيص ولكننا لسنا بمثل هذه البراعة في العلاج‏,‏ حتي ان هذه الظاهرة انتشرت ووصلت إلي درجة مؤلمة وخطيرة بعد ان اصدرت المحاكم أحكاما قضائية كشفت عن سرقات علمية يقوم بها اساتذة‏,‏ مع ما للاستاذ من مكانة تجعله هو الحارس للقيم الجامعة‏,‏ فما العمل ان كل السارق هو الحارس‏..‏ وبالقطع فان هذه الحالات قليلة جدا‏,‏ ولكنها مؤسفة جدا‏,‏ ويجب ان نتوقف عندها حتي ولو كانت حالة واحدة لأنها تسيء إلي آلاف من الاساتذة الحقيقيين الذين يستحقون هذا اللقب الجليل بجدارة‏.‏

ومشكلة التنسيق أكبر من ذلك‏..‏ فهناك فوضي إنشاء اقسام للغات الاجنبية في كليات التجارة وامتدت إلي كليات الحقوق‏,‏ دون ان نبحث هل تحتاج مصر إلي كل هذه الاعداد من خريجي الحقوق والتجارة الذين يعملون ويتعاملون بالانجليزية أو الفرنسية‏,‏ وهل سيأتي يوم يكون فيه العمل التجاري والمالي والقضائي بهذه اللغات بمثل هذا الانتشار‏,‏ وباختصار اذا كنا واثقين من أهمية هذه الدراسات بلغات غير اللغة العربية ونخصص لطلابها اماكن خاصة واساتذة متخصصين فلماذا لاتكون هناك كليات مستقلة للتجارة والحقوق باللغة الانجليزية والفرنسية بدلا من وجود ازدواجية داخل الكلية الواحدة؟‏!‏ بعض الطلبة يدفعون مصاريف عالية ويشترون كتبا اجنبية غالية ويدخولون الكليات بالمرسيدس ويمثلون الطبقة الجديدة التي تعد نفسها للتعامل بلغات غير العربية بينما الأغلبية تتعلم بالمجان وباللغة العربية التي تصبح في هذه الحالة لغة الفقراء ويعدون انفسهم للوظائف الدنيا‏.‏ وادارة الكلية تتعامل مع طلبة أقسام اللغات علي انهم الفئة المميزة الأولي بالرعاية وهذا طبيعي لأنهم ابناء شخصيات معروفة‏.‏ هذا التمايز والانقسام داخل الكلية الواحدة له تأثيراته النفسية والاجتماعية ارجو الالتفات اليها والتفكير في نتائجها علي المدي البعيد‏.‏

وأيضا هناك في داخل الجامعة الواحدة طلبة منتظمون وطلبة منتسبون انتسابا موجها‏,‏ وطلبة في الجامعة الحرة‏,‏ وكل فئة لها نظام في دفع المصروفات والدراسة والامتحانات‏..‏ لماذا لاتكون هناك جامعة مفتوحة مستقلة التعليم فيها للجميع وبمصاريف لاتشترط السن ولا المجموع وتعلم كل من يريد ان يتعلم مادام قادرا علي التعلم ودفع تكلفة التعليم‏,‏ وجامعة أخري للانتساب والمنتسبين‏,‏ وبذلك تكون لكل جامعة نظام واحد‏,‏ وفلسفة عمل واحدة‏,‏ وتستطيع الادارة ان تحسن القيام بوظائفها‏,‏ ونخفف الضغط والتكدس في الجامعات الحالية‏.‏

هذا الاقتراح طرحه الدكتور عبدالعزيز حجازي رئيس الوزراء الاسبق ولم يجد صدي ربما لأن الاوضاع الحالية مريحة ومفيدة للبعض أو لاننا تعودنا ان نقابل كل فكرة للتغيير بالحكم الجاهز بأن يبقي الوضع علي ما هو عليه‏.‏ وهذه هي المشكلة وهي نقطة البداية للعلاج‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف