مستقبل الجامعة (1)

في الاسبوع الماضي عقد أكبر مؤتمر قومي للتعليم العالي‏,‏ شاركت فيه كل القوي الاجتماعية والسياسية‏,‏ كما شارك فيه رئيس الوزراء ورؤساء وأساتذة الجامعات‏,‏ وكان من المؤتمرات القليلة التي لم تعقد لمجرد التظاهر بالبحث وافساح المجال للآراء المختلفة‏,‏ ولكنه كان فعلا ساحة حرة للحوار‏,‏ وازدادت فيه حرارة المناقشات والاختلافات وكان شيئا رائعا أن تكون في مصر كل هذه الثروة الغالية من العقول القادرة علي تحقيق نهضة كبري ثم لاتتاح لها الفرصة للتعبير والعمل‏.‏

ولقد أخر عقد هذا المؤتمر كثيرا‏,‏ لأنه ـ كما تبين من المناقشات ـ هو البداية الطبيعية للاستعداد للقرن الحادي والعشرين‏,‏ هذا القرن الذي أعلنت فيه مصر أن التعليم هو المشروع القومي لها‏,‏ وأعدت استراتيجية نهضتها علي أساس أن التعليم هو الأساس في بناء مجتمع عصري‏,‏ وهو محور الأمن القومي بمعناه الشامل‏..‏ وأصبح التعليم ـ بعد ذلك ـ المشروع القومي كثير من دول العالم‏,‏ وحتي الولايات المتحدة‏,‏ واليابان‏,‏ وبريطانيا‏,‏ بدأت منذ سنوات في إعداد مؤسسات وأساليب ومناهج التعليم للعصر الجديد القادم‏..‏ وربما كان تأخير انعقاد هذا المؤتمر بسبب كثرة المشاكل في الجامعات ومعاهد التعليم العالي‏,‏ وربما بسبب الحرص علي الإعداد الجيد لضمان الجدية والنجاح وهذا ماحدث فعلا‏,‏ فقد سبقت المؤتمر أعمال لجان عليا متخصصة ولجان استماع‏,‏ واستطلاع شامل لأوضاع التعليم وفلسفته ونظمه في تجارب مختلف دول العالم في أمريكا وأوروبا وآسيا وافريقيا‏..‏ وربما كان التأخير أيضا بسبب تأخر انعقاد المؤتمر القومي لتطوير التعليم الثانوي‏,‏ وقد عقد مؤتمران منذ سنوات أعدا خطط تطوير التعليم الابتدائي والاعدادي وبدأ إعداد مناهج جديدة وتدريب المدرسين وبناء مدارس جديدة في هاتين المرحلتين‏,‏ وبقي التعليم الثانوي ينتظر التطوير الشامل‏,‏ وهو يمثل مرحلة إعداد الطالب للتعليم الجامعي‏,‏ ويتوقف تطوير التعليم الجامعي الي حد كبير علي درجة الجودة والصلاحية في خريجي المرحلة الثانوية ومدي استعدادهم للتوافق مع متطلبات التعليم الجامعي الجيد بالمعايير العالمية‏.‏

وعلي كل حال‏,‏ فإن البداية المتأخرة أفضل من استمرار التأخير أكثر من ذلك‏,‏ وقد دخلت دول العالم القرن الجديد بعد تجديد قدرات وأساليب التعليم الجامعي‏,‏ ولم يعد أمامنا إلا أن نلهث علي أمل اللحاق بها ولو متأخرين‏..‏ وأمامنا ما تفرضه العولمة علينا من تحديات وأولها توحيد مستويات تقويم خريجي الجامعات بحيث تستبعد الجامعات والدول التي يقل مستوي خريجيها عن مستوي خريجي الدول الكبري التي تقود عصر العولمة‏,‏ ومعني ذلك بصراحة تهميش الجامعات والدول التي تتجمد فيها أوضاع التعليم‏,‏ ومن ناحية أخري فإن فرص العمل سوف تكون لأفضل العناصر تعليما وتدريبا ومقدرة علي التعامل مع متطلبات الأسواق الحديثة‏,‏ دون تمييز أو تفضيل لخريجي البلد اذا كانوا أقل في المستوي‏,‏ ومعني ذلك بصراحة أن الشركات الاستثمارية والشركات العملاقة العابرة للحدود التي ستعمل في مصر لن تكون ملزمة بتشغيل خريجي الجامعات المصرية اذا كانوا أقل في المستوي من خريجي أي جامعة في أي دولة أخري‏,‏ وهذا هو مفهوم العولمة في التعليم وفي سوق العمل‏,‏ ونلمس ذلك منذ الآن في الاعلانات عن الوظائف التي تنشرها هذه الشركات‏,‏ فهي تحدد الشروط والمواصفات ولا تضع أي اعتبار لجنسية المتقدم‏,‏ وتكون النتيجة أن تفضل شركة أمريكية خريجا من اليابان أو كوريا علي خريج من جامعات أمريكية‏.‏ والعكس‏,‏ وهكذا سيكون الحال في كل دول العالم الكبري والصغري بعدما تغزو العولمة القارات جميعها‏,‏ ويتحول العالم كله الي ساحة صراع هائل في كل المجالات‏:‏ صراع اقتصادي‏,‏ وصراع سياسي‏,‏ وصراع ثقافي واجتماعي وحضاري وأخلاقي‏,‏ والبقاء فيه للأقوي والأصلح‏.‏

وقد تزايد الطلب علي التعليم الجامعي في مصر وفي كل دول العالم حتي أصبحت الصيحة الآن ان التعليم الأساسي لكل مواطن في هذا القرن هو التعليم الجامعي والعالي‏,‏ بعد أن كان التعليم الأساسي في القرن الماضي يقف عند حد المرحلة الابتدائية ثم الاعدادية ثم الثانوية والمتوسطة‏,‏ ومعني ذلك أن انصاف المتعلمين سوف تقل أمامهم فرصة العمل والتقدم في أوضاع العالم الجديدة‏..‏ نتيجة التغير الكبير في أسواق العمل‏,‏ وعدم الحاجة الي اليد العاملة غير المدربة علي التعامل مع التكنولوجيا الحديثة‏,‏ وتزايد الحاجة الي القادرين علي التعامل مع تكنولوجيا المعلومات‏..‏ وبرغم اننا نشكو من تكدس الجامعات وزيادة أعداد الطلبة عن طاقتها علي الاستيعاب وقدرتها علي تعليمهم تعليما جيدا‏,‏ فإن الواقع يؤكد أن عدد طلاب الجامعات والتعليم العالي عندنا أقل بكثير من المستويات العالمية‏,‏ بدليل ان في مصر مليونا و‏800‏ ألف طالب في الجامعات لايمثلون إلا ربع عدد من هم في شريحة العمر‏..‏ ومازالت الجامعات عندنا تعمل بالأسلوب التقليدي منذ انشاء الجامعات في العصور الوسطي بينما أصبحت الجامعات تعمل عبر الحدود بالانترنت وتوسعت في التعليم عن بعد والتعليم مدي الحياة بحيث يستطيع أي انسان في أي عمر ـ حتي بعد السبعين ـ أن يلتحق بالدراسة الجامعية التي يرغب فيها دون قيود إلا أن يثبت كفاءته ومقدرته علي استيعاب مواد الدراسة واجتياز الاختبارات بنجاح‏,‏ ومازالت جامعاتنا تدرس مقررات أقرب الي مقررات التعليم الثانوي وتجعل كتابا واحدا هو المصدر الوحيد لمعرفة الطالب عن كل ما يتعلق بكل علم‏,‏ وتعتمد علي التلقين بالمحاضرات في مدرجات مكدسة يستحيل فيها الحوار‏,‏ بينما الجامعات الآن تعتمد علي مجهود الطالب في التعامل مع الكمبيوتر والانترنت والمكتبة والمراجع والمصادر والوسائل المختلفة‏,‏ وللأستاذ دور كبير في توجيه الطالب في حلقات مناقشة ولقاءات متعددة توجهه الي الطريق الصحيح للبحث‏.‏

فكيف سيكون مستقبل الجامعات المصرية في هذا العالم الجديد؟

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف