جمال البنا وقبيلة «حدثنا» (1 - 2)

تعرض جمال البنا لحملات وصلت إلى حد اتهامه بإنكار السنة، وهى الركن الثانى من أركان العقيدة، وقال بعض المتربصين به إنه ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهى عبارة جاهزة يسهل على البعض أن يلصقوها على ظهر من يريدون اغتياله معنويا أو ماديا!

وكانت مثل هذه الحملات الظالمة تسبب له آلاما نفسية نتيجة لسوء الفهم أو التسرع فى إصدار الأحكام، كما تعود الذين يريدون احتكار الإسلام ويعتبرون أنفسهم الممثلين الوحيدين والمدافعين الوحيدين والمتحدثون الوحيدين عن الإسلام.

وجمال البنا كاتب إسلامى متعمق فى دراسة العلوم الإسلامية، قضى سنوات عمره فى البحث والتأليف، وترك أكثر من مائة كتاب فى مختلف فروع العلوم الإسلامية، ولذلك كنت اقرأ له باحترام، واتفق واختلف معه، ونتبادل الحجج، واتعرف من خلال المناقشة معه على مدى عمق إيمانه وغيرته على الإسلام، وحرصه الشديد على تنقية العقيدة الإسلامية، مما شابها فى عصور الجهل والتشدد وظلام العقول واستبداد الحكام، كان يريد وبمنتهى الإخلاص، أن يكشف ما لحق بالعقيدةمن تشويه يعطى لأعدائها الفرصة لو صمها بما يسىء إلى الإسلام والمسلمين.

كان جمال البنا ضحية الجهل وإساءة الفهم، وأحيانا كان ضحية سوء القصد، وكانت النتيجة أن لحقت به تهمة هو برئ منها كما يعلم الله، تهمة من بعض المتشددين الذين لا يعرفون- ولا يعترفون- بالتسامح والتعددية فى الفقه، ومعنى وجود مذاهب وأئمة مختلفين لم يمنعهم الاختلاف من الاعتراف بالفضل والعلم لكل منهم وتركهم الحرية لكل مسلم لأن يأخذ المذهب الذى يستريح إليه، وأن يأخذ أيضا من كل مذهب ما يستريح ضميره إليه دون التقيد بكل ما فى مذهب معين، وأرسوا مبدأ يميز الفقه الإسلامى، هو «بأيهم اقتديتم اهديتم» أى أن المسلم له أن يأخذ من مذاهب الفقه ما يشاء وكل ما يأخذه صواب، والعبارة العظيمة التى تميز الفقهاء الكبار أنهم يختمون كل فتوى وكل تفسير، وكل رأى بقولهم «والله أعلم» أى أنه لا يعلم الحقيقة الكاملة المطلقة إلا الله وكل ما هو من فكر وعمل البشر هو اجتهاد إن كل صوابا فلصاحبه أجران، وإن كان خطأ فله أيضا أجر.. هل هناك تسامح فى العقيدة أكثر من ذلك؟

***

وفى يوم قرأت مقالا يهاجم جمال البنا هجوما مقذعًا إلى حد اتهامه بإنكار «السنة» وأفاض المقال فى شرح أهمية السنة وأن من ينكرها فإنه آثم قلبه.. بل إنه يكون قد خرج من الملة (!)، واتصلت به فإذا به مهموم وفى صوته انفعال وربما آثار دموع وقال لى: لماذا يسيئون دون فهم لما أقول وأنا أقول وأكرر فى كل كتبى ومقالاتى إن كل مسلم لا يمكن أن ينكر (السنة) وأنها هى العمل والمنهج وهى السيرة العطرة، ولذلك فإن لها طبيعة عملية، وبهذا فهى تختلف عن (الحديث) الشريف.

الحديث له طبيعة شفهية، وأنا لا يمكن أن ادعو إلى ترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنى أناقش وأكشف خطأ فئة نصّبت نفسها لتجميع (أحاديث) ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وترى أنها هى (الفرقة الناجية) وتدّعى أنها من رواة الحديث.. وختم حديثه معى بقوله: الكلام عن (الحديث الشريف) غير الكلام عن (السنة النبوية) والكلام عن (المحدّثين) غير الكلام عن الحديث نفسه، وأنا لا أنكر الحديث (الصحيح) المؤكد ولكنى أنكر ما تفعله قبيلة (حدثنا) وما يذكرونه من أحاديث فيها آراء وأحكام مخالفة للعقل وللعلم ولواقع الحياة وطبيعة البشر.. وعلى العموم سأرسل إليك كتابًا أشرح فيه وجهة النظر هذه.

***

وفعلا وصلنى منه كتاب بعنوان (جناية قبيلة حدثنا) طبعه على نفقته الخاصة ضمن سلسلة كتب أصدرها عن دار نشر متواضعة أنشأها باسم (دعوة الإحياء الإسلامى) وعنوانها هو عنوان مسكنه، وفى هذا الكتاب يشير إلى ما دعاه إلى إعداده وهو أن أحد المتخصصين فى رواية هذا النوع من الأحاديث غير المؤكدة ذكر فى كتاب له أن من بين من ينكرون السنة: طه حسين، وأحمد أمين، وزاهد الكوثرى، والدكتور محمد حسين هيكل، وفريد وجـدى، وزكى مبــارك، وقاسـم أميـن، ومحمود أبو ريه، وتوفيق الحكيم، والمستشار سعيد العشماوى، وحسين أمين، والدكتور مصطفى محمود، والدكتور حسن الترابى، والشيخ محمد المشتهرى...إلخ.. وخلط بذلك بين وكيل المشيخة الإسلامية فى تركيا وبين مهندس كمبيوتر فى أمريكا، وبين باحث إسلامى محقق (أحمد أمين) وأديب ومؤلف مسرحى (توفيق الحكيم) وقال: إن تهمة إنكار السنة أصبحت مثل تهمة العداء للسامية سلاحا يشهره أصحابه على الذين يخالفونهم دون تميز، فهى ليست إلا نوعا من الإرهاب الفكرى.

فى الكتاب يتابع جمال البنا قبيلة حدثنا من الأيام الأولى للدعوة فى المدينة وفى زمن الخلفاء الراشدين، وفى هذه الفترة لم يكن لهم وجود ملحوظ، ولكن حدث التطور الخارق للمجتمع الإسلامى فى (المرحلة الامبراطورية) التى تم فيها وضع الكثير من الأحاديث ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لكى يبرروا سلطة واستبداد الحكام، أو لكى يمجدوا طائفة معينة، من خلفاء الرسول وبخاصة فى الصراع الذى نشأ فى عهد الخليفة عثمان وحول خلافة الإمام على ومقتله ثم مقتل الإمام الحسين وظهور الفرق التى نسجت من عندها تاريخًا ووقائع لم تحدث وأحاديث لم يقلها الرسول، وساعد على ذلك مناخ الاستحلال وكانت النتيجة الإساءة إلى العقيدة وإلى الرسول، واعتناق العامة لهذه الأحاديث أدى إلى انتشار شخصية نمطية لبعض المسلمين شخصية غيبية وغبية وأدى فى النهاية إلى تخلف المجتمع الإسلامى.

***

هدف جمال البنا إذن ليس إنكار السنة أبدا، ولكن هدفه أن يسهم فى تطهير العقيدة والقرآن والرسول من افتراءات هذه «القبيلة» لكى يعود الإسلام كما كان فى أول عهده قوة للعمل والاجتهاد والعلم والتقدم.. هدفه أن يتعرف المسلمون وغير المسلمين على الإسلام، كما أراده الله، ولا يجدون فيه وجها يحتمل الشك أو يحتمل النقد.

والغريب أن الذين اتهموا جمال البنا بإنكار السنة أغفلوا- وربما جهلوا- أن له كتابا صدر فى عام 1982، عنوانه (الأصلان العظيمان: الكتاب والسنة) وكتاب آخر بعنوان (السنة ودورها فى الفقه الجديد).

***

وفكرته تتلخص فى أن «قبيلة حدثنا» تروى أحاديث عن فلان عن فلان عن فلان من سلسلة رواه موضع شك ونقد، وهذه القبيلة فرضت الشخصية النمطية للمسلم بصورة تجعلها الأسوأ وهى التى جعلت كثيرا من المسلمين ينظرون إلى الوراء ولا ينظرون إلى الأمام وإلى المستقبل، وهم ضحايا المواعظ التى تنهال عليهم فى كل مناسبة عن عذاب القبر وعن الجحيم وعن ترك الدنيا لغيرهم وعلى أن يتفرغ المسلمون للعبادة مع أن الله سوف يحاسب كل إنسان عن عمله للدنيا والآخرة والإسلام دعوة لأن يعيش المسلم محبا للحياة ومتفائلا ويقدم خبرته وكفاءته لتحسين نوعية الحياة للناس جميعا، والمسلم القوى خير من المسلم الضعيف، والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.. إلى آخر الوقائع والأحاديث الصحيحة وأعمال الرسول الكريم التى تؤكد قيمة العلم وقيمة العمل.. أما هذه القبيلة فهى تجعل المسلم يفقد إرادة الحياة والتمتع بها وقد حذرنا الله تعالى من أن نكون ممن يحرّمون زينة الحياة الدنيا التى أخرجها الله لعباده والطيبات من الرزق.

ومن أمثلة الأحاديث التى يروجها هؤلاء أطع الأمير وإن جلد ظهرك وغصب مالك.. ومن أمثال ذلك كثير مما لا يثمر إلا شعبا خاضعا، فأين هذا من المبدأ الذى وضعه الرسول الكريم: لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.. مما يتفق مع ما جاء به القرآن من عدم طاعة الوالدين إن جاهدا الابن على الشرك وفى نفس الوقت يأمر الله: (صاحبهما فى الدنيا معروفا).

والقضية تحتاج إلى تفصيل.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف