أخلاقيات الإعلام و المصارحة

لم يعد غريبا أن نجد من يدافع عن الباطل بحرارة وثقة بأكثر مما نجد من يدافع عن الحق‏..‏ ولم يعد غريبا أن يتحول تقد سياسة أو مشروع أو فكرة الي هجوم شخصي علي صاحبها‏..‏ هجوم يستخدم ألفاظا حادة تتجاوز حدود النقد المباح‏,‏ الي اختراق دائرة القذف والسب والاعتداء علي الكرامة وتوجيه الاتهامات بغير سند أو دليل‏..‏ ولم يعد غريبا أن تسمع وتقرأ رأيا دون أن تدري انه اعلان مدفوع الأجر لترويج هذا الرأي بهذه الطريقة اللاأخلاقية‏.‏

وهذه مشكلة قديمة‏,‏ تشغل بال الحريصيين علي اخلاقيات الاعلام فترة‏,‏ ثم ينشغلون عنها فتزداد حدة واتساعا‏,‏ ويكتسب الممارسون لها قوة تجعلهم يدافعون دون خجل عن هذه الممارسات اللاأخلاقية‏,‏ ويخلطون بينها وبين حرية الرأي‏.‏

لذلك عادت القضية الي مناقشات المجلس الأعلي للصحافة في اجتماعه الأخير‏,‏ ثم الي مناقشات المجلس القومي للثقافة والاعلام بالأمس‏,‏ وكانت ضمن هموم المثقفين والجمهور في ندوات معرض الكتاب‏,‏ مما يعكس درجة عالية من القلق من استمرار هذه الظاهرة‏,‏ برغم مايراه البعض أنها تنحسر مع الزمن‏,‏ ويزداد الاعلام التزاما بالقيم وميثاق الشرف من تلقاء نفسه‏,‏ لان الاعلام‏,‏ في النهاية‏,‏ صناعة العقلاء وأصحاب الرأي‏,‏ وهم الأقدر علي ادراك الخطأ‏,‏ والتمييز بين ما ينفع المجتمع وما يضره‏,‏ ولكن يبدو أن فكرة ترك الأمور الي أن يفيق الغافلون‏,‏ أو يعود الي الصواب الشاردون‏,‏ أو يروع أصحاب الأهواء والمصالح أنفسهم بأنفسهم‏,‏ سوف يطول الزمن كثيرا جدا قبل أن تتحقق لان أشد أعداء حرية الصحافة هم أدعياء المدافعين عن حرية الصحافة‏,‏ ويفعلون عكس مايقولون‏.‏

وتقارير المجلس الأعلي للصحافة الأخيرة عن الممارسات الصحفية‏,‏ في الشهور الماضية‏,‏ تشير الي استمرار كل أخطاء الصحافة وان كانت بدرجة أقل احصائيا‏,‏ والقضية ليست بعدد الأخطاء‏,‏ ولكن بنوعية هذه الأخطاء وتأثيرها علي المجتمع وعلي الرأي العام‏.‏

وتقارير المجلس الأعلي للصحافة حصرت ملاحظاتها في الأخبار مجهولة المصدر التي تقصد الي اثارة الشكوك بالجملة حول شخصيات ورموز في المجتمع دون تحديد‏,‏ وكأنها تهدف الي زعزعة الثقة في الجميع‏,‏ واثارة الشبهات والاتهامات عشوائيا‏,‏ كما ركزت علي الخلط بين الاعلان والتحرير بحيث لم يعد القاريء يدرك الفرق بين ما هو رأي واعلام‏,‏ وما هو اعلان مدفوع الأجر‏,‏ وهكذا انحصرت اهتمامات تقارير المجلس في الجوانب الفنية في الممارسات الصحفية لرصد بعض الأخطاء والتجاوزات المنتشرة في الصحف القومية والحزبية والمستقلة‏..‏ ولكن التقارير لم تشر الي تحليل مضمون ماينشر في بعض الصحف‏..‏ كما ان الصحفيين لايمارسون النقد الذاتي الذي يطالبون به غيرهم‏.‏

لم تشر هذه التقارير الي ماينشر من ترويج لفكر التطرف والارهاب‏,‏ وما في بعض الكتابات من غلو في فهم وتفسير النصوص الدينية بالمخالفة لقول الله تعالي‏:‏ يا أهل الكتاب لاتغلو في دينكم غير الحق‏,‏ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا‏,‏ وضلوا عن سواء السبيل‏..‏ ولا أمر الرسول صلي الله عليه وسلم‏:‏ اياكم والغلو في دينكم‏..‏ فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين‏..‏ ولم يشر التقرير الي ماينشر علي أنه تعبير عن الصحوة الاسلامية وهو في حقيقته ترويج للخلط بين الاسلام والعنف والتشدد‏,‏ وتحريض علي التذمر‏,‏ وتعميق لمشاعر الكراهية والضيق‏,‏ وكلها تمثل خدمة لتيارات العنف باسم الدين‏,‏ وليست تعبيرا عن صحوة ولكنها تعبير عن ردة وانحراف‏..‏ أو هي في أحسن الأحوال تعبير عن سوء فهم لأفكار شاذة نابعة من مجتمعات أخري لها ظروف تاريخية وسياسية ومناخ ديني‏,‏ غير ما في مجتمعنا علي طول الخط‏..‏ واستيراد أفكار العنف من مجتمعات أخري وادخالها في سياق افكارنا دون مراعاة لفوارق الزمان والمكان والظروف هو انحراف يجب التصدي له‏,‏ وان ادعي من يمارسه انه حسن النية فإن تقويمه واجب شرعي علي من يعرف الفكر الصحيح‏.‏

ولم تتعرض تقارير المجلس الأعلي للصحافة أيضا الي موجات النشر الجديدة لموضوعات وأخبار وصور جنسية عارية ليس لها من هدف إلا زيادة التوزيع باثارة غرائز المراهقين‏,‏ وأكثر ماينشر في هذه الصحف التي تسمي صحافة صفراء خال من أي قيمة علمية أو فنية أو اجتماعية‏,‏ ولكنه سوء استعمال لرخصة الحرية‏,‏ واساءة الي الفكر والمجتمع‏,‏ وافساد للشباب‏,‏ واعطاء مشروعية للانحلال خطوة خطوة‏,‏ ولايدخل كل ذلك في نطاق حرية الرأي‏,‏ أو استقلال سلطة الصحافة‏,‏ ولكنه عدوان صريح وخطير علي القيم وعلي المجتمع ككل يستلزم التصدي له‏.‏ واذا كان الأمر قد أصبح خارج قدرتنا علي التحكم فيما ينشر ويذاع علي شبكات الانترنت والقنوات الفضائية الخارجية‏,‏ فيجب ألا نزيد الطين بله‏,‏ ونوسع دائرة الخطر بمثل هذه الصحف التي تعتمد علي الاثارة الجنسية والعنف والجريمة‏..‏ ولا أقل من وقفة تصحيح‏.‏

ولم تتعرض تقارير المجلس الأعلي للصحافة أيضا لظاهرة خطيرة موجودة في الصحافة وعلي وشك الانتشار‏,‏ وهي تجاوز حدود النشر عن الجرائم والمحاكمات والقضايا‏..‏ بعض الصحف تقدم كل متهم علي أنه مجرم بعكس المبدأ الدستوري الذي يعطي المتهم حصانة باعتباره متهما وليس مجرما الي أن تثبت ادانته‏..‏ وبعض الصحف لاتلتزم بالمبدأ الأخلاقي ـ والقانوني ـ وهو حق المتهم في محاكمة عادلة بعيدة عن ضغوط وأحكام الرأي العام‏,‏ لان تحول المحاكمات والداولات من قاعات المحاكم الي ساحات الاعلام يعني ان يصدر الناس في الشارع أحكاما علي المتهمين‏,‏ والرأي العام عادة ميال الي تصديق الاتهامات‏,‏ وليست لديه أدوات التحصيل والتقصي‏,‏ ولا إلمام بأحكام القوانين‏,‏ ولا صبر لديه لدراسة كل حالة وكل ورقة وكل أقوال الشهود كما يفعل القضاة‏..‏ ولذلك ساد في المجتمع شعور عام بانتشار الاغتصاب‏,‏ والقتل‏,‏ واستيراد مواد غذائية فاسدة‏,‏ وانحرافات مالية وفساد في مواقع حساسة مثل البنوك وشركات القطاع العام‏..‏ بل ان بعض الصحف لاتتورع عن نشر تعليقات تتضمن آراء وأحكاما في القضايا بتأكيد الاتهام أو البراءة‏.‏ وهذا مرفوض في كل دول العالم‏,‏ ويعتبر جريمة‏,‏ لأنه يمثل ضغطا معنويا للتأثير علي القضاة‏,‏ وهذه جريمة في القانون المصري أيضا وعليها عقوبة جنائية‏,‏ ولكن لم يتم إعمال القانون في هذه الناحية بدافع نبيل‏,‏ هو ترك الصحافة لتصحح نفسها بنفسها باعتبارها قدوة في احترام القيم والقوانين‏,‏ أو هذا هو المفروض علي الأقل‏.‏

وهذه وأمثالها قضايا قديمة يتكرر الحديث عنها‏..‏ ويتكرر الحماس للإصلاح‏..‏ ويحدث تحرك في بعض الأحيان ويزداد الحديث عنها‏,‏ وتنعقد اجتماعات‏,‏ وتصدر توصيات وتصريحات‏,‏ ثم يذهب كل شيء الي النسيان‏,‏ ويبقي الداء ينخر في المجتمع‏..‏ الي متي‏..‏؟

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف