تناقضات إسرائيلية

من حق الشعوب العربية أن تشعر بالقلق من السياسات الإسرائيلية‏..‏ ومن حق الرأي العام ألا يأخذ تصريحات القادة الإسرائيليين عن رغبتهم في تحقيق السلام مأخذ الجد‏..‏ فالشواهد أمام المواطن العربي العادي تشير كلها إلي حالة من التناقض في السياسات والمواقف الإسرائيلية‏..‏ تناقض بين ما يقال اليوم وما قيل بالأمس‏..‏ وتناقض بين ما يتم الاتفاق عليه وما ينفذ‏..‏ وتناقض بين المبادئ المعلنة والممارسات القائمة‏..‏ وتناقض بين الحديث عن التطبيع وما يبدو أمامنا من السعي إلي تعميق الكراهية والعداء للعرب‏..‏

فإسرائيل تعلن بلسان الرسميين أنها تريد أن تعيش في سلام وترفض في الوقت نفسه أن تعلن حدودها التي تريد أن تعيش فيها كدولة كما ترفض إعلان صورة السلام الذي تريده‏..‏ هل هو السلام القائم علي علاقات التكافؤ والمساواة أم هو الاستسلام من جانب العرب والسيطرة من جانب إسرائيل؟؟ وهل تريد إسرائيل أن تصبح إمبراطورية أو استعمارية أم تريد أن تكون دولة كسائر دول المنطقة لها ما لها وعليها ما عليها؟‏!‏

ومع أن إسرائيل أمامها الآن فرصة ذهبية لتحقيق السلام والأمن إلا أنها تتجاهل الطريق الصحيح لذلك‏..‏ وتختار الطريق العكسي الذي يعمق مشاعر التوتر في نفوس العرب‏..‏ أمام إسرائيل فرصة لتوقيع معاهدات سلام لا يريد فيها العرب من إسرائيل شيئا‏..‏ ولا يطلبون منها تنازلات عما تملك‏..‏ وكل ما يطلبونه هو استعادة ما هو حق مغتصب‏..‏ فالأرض العربية المحتلة ستبقي أرضا عربية محتلة احتلالا عسكريا بالقوة والغصب مهما يطل الزمن‏..‏ وإسرائيل تطلب لنفسها الأمن وتضع لذلك شروطا وضمانات تهدد أمن العرب‏..‏ فكيف يمكن للعقل العربي قبول هذه التناقضات‏..‏؟

وأمام إسرائيل فرصة ذهبية للتعامل مع أجيال جديدة من العرب والإسرائيليين لم يكونوا موجودين أيام اغتصاب إسرائيل لأرض فلسطين‏,‏ ولا أيام العدوان علي مصر عام‏1956,‏ ولا أيام غزو الدول العربية المجاورة عام‏1967..‏ ومع ذلك فإنها تضيغ هذه الفرصة بأساليب القمع التي تتبعها مع العرب الذين يعيشون في المناطق المحتلة في الجولان ولبنان والضفة‏..‏ وبينما يعلن رئيس الوزراء استعداده لإعادة الأرض العربية المحتلة لأصحابها تبدأ اللعبة التقليدية بقيام المظاهرات الرافضة للتخلي عن هذه الأرض‏,‏ وتهدد أحزاب بالانسحاب من الائتلاف الحاكم إذا فكرت الحكومة في إقرار سلام قائم علي العدل أو علي نصف العدل‏..‏ وبينما تعلم إسرائيل بقرار الأمم المتحدة رقم‏194‏ الخاص بحق الفلسطينيين المهاجرين في العودة إلي وطنهم فإنها ترفض رسميا عودتهم‏..‏ وبينما تنصب أمريكا نفسها الحارس والمنفذ للشرعية الدولية فإنها عند هذا القرار تؤيد الموقف الإسرائيلي غير الشرعي وتهدر الشرعية الدولية وتضرب بها عرض الحائط‏..‏ وبينما تعد إسرائيل مشروعات للتعاون الاقتصادي مع الدول العربية فإنها تشدد الحصار الاقتصادي علي الفلسطينيين في مناطق السلطة الفلسطينية‏..‏ وتضيق عليهم في الرزق‏..‏ وتفرض عليهم الحرمان من العمل‏,‏ والتصدير‏,‏ والسفر‏,‏ وبينما تقدم إسرائيل نفسها للعالم علي أنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط فإنها تمارس أبشع صور الديكتاتورية علي العرب في مناطق الاحتلال‏..‏ والديمقراطية الإسرائيلية مقصورة علي الإسرائيليين وحدهم‏,‏ وتتوقف عند الخط الأخضر الذي اختلقته قسرا‏..‏ وما يتحدث عنه المثقفون الإسرائيليون من قيم العدالة السياسية والاقتصادية وحقوق الإنسان لا ينطبق أبدا علي العرب في الأراضي المحتلة‏,‏ ولا في إسرائيل نفسها‏,‏ ولا حتي علي العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية رغم أن عددهم وصل إلي أكثر من مليون ويمثلون‏20%‏ من الشعب الإسرائيلي‏..‏ فإسرائيل التي تملأ الدنيا صراخا عن الآلام التي تحملها اليهود في معسكرات الاعتقال نتيجة للنزعة العنصرية والعداء للسامية فإنها تمارس هي نفسها هذه السياسة وتعمق نزعة العداء للعرب في نفوس كل الإسرائيليين وتضيف إليها أساليب مبتكرة في التعذيب للعرب في السجون والمعتقلات‏,‏ حتي أن القانون الإسرائيلي يسمح صراحة بممارسة تعذيب المعتقلين العرب‏..!‏ وإسرائيل التي تتحدث أمام العالم عن نزاهة القضاء وسيادة القانون تحكم الفلسطينيين في مناطق الاحتلال بالقوانين العسكرية وتحكم المستوطنين اليهود بقوانين أخري تمنحهم الحماية وحرية الاغتصاب‏..‏ وتفرض رقابة عسكرية علي الصحف الإسرائيلية في نشر الأخبار العسكرية وأخبار الاعتقالات والتعذيب‏..‏ وتقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان مليئة بالأحداث والشواهد والأرقام عن الجحيم الإسرائيلي الذي يعيش فيه العرب في أرضهم المحتلة‏..‏

إسرائيل تتحدث عن فتح الأسواق العربية للمنتجات الإسرائيلية والسياح‏..‏ بينما تمنع العرب في الأرض المحتلة من بيع منتجاتهم‏,‏ أو حتي حفر بئر ماء‏..‏ وأن الحصار الاقتصادي علي الفلسطينيين يسبب لهم خسائر تزيد علي خمسين مليون دولار يوميا‏..‏ وحكومة إسرائيل تتحدث عن تحسين المناخ تمهيدا للسلام القادم بينما هي تمارس قصف لبنان بالصواريخ والقنابل المحرمة دوليا كل يوم‏..‏ وتمارس علي الفلسطينيين دون رحمة الحجز دون اتهام‏,‏ والترحيل الإجباري‏,‏ وتدمير البيوت علنا أمام عدسات التليفزيون وتشريد سكانها‏..‏

وإسرائيل تتحدث عن الأمن القومي لإسرائيل وتهدد الأمن القومي العربي ولا تريد من العرب أن يحافظوا علي أمنهم القومي‏..‏ وهي تبعث بالجواسيس الإسرائيليين ولا تريد من العرب اكتشافهم أو محاكمتهم أو سجنهم‏..‏ وحين يقتل المستوطنون الإسرائيليون فلسطينيا فإن السلطات الإسرائيلية تغمض العين ولا يسمع أحد عن إجراءات محاكمة‏,‏ وإذا ألقي الفلسطينيون حجارة علي سيارة إسرائيلية يطلق عليهم ركابها الرشاشات فإن القبض يتم فورا‏,‏ والسجن هو المصير‏,‏ باعتبارهم إرهابيين‏,‏ حتي أصبحت كلمة إرهابي تعني فلسطيني‏.‏

وإسرائيل التي تعلن قلقها من المد الديني الأصولي الإسلامي تقوم هي بدعم المد الأصولي اليهودي الذي يخرج المتشردين والمتعصبين‏,‏ وتساعد علي انتشار شبكة واسعة من المدارس الدينية التابعة لأشد حزبين تعصبا من بين الأحزاب الدينية هما شاس‏,‏ ويهود التوراة‏..‏ وتخصص مقعد وزير التعليم منذ سنوات طويلة لحزب شاس لكي تحصل المدارس الدينية علي دعم مالي ومساندة تعطيها القوة والنفوذ والانتشار‏,‏ حتي زاد الدعم الحكومي لهذه الشبكات بنسبة‏305%,‏ كما تقول صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية‏,‏ هذا بخلاف الإعانات التي تخصصها وزارة الأديان ووزارة العمل للأسر التي تعلم أبناءها في مدارس التعصب الديني المتشددة‏,‏ وحين قام باراك بتعيين وزير للتعليم لا ينتمي إلي حزب شاس المتعصب هدد هذا الحزب بالخروج من الائتلاف الحاكم‏..‏ أي أن الأصولية والتشدد والتعصب في إسرائيل تزداد تعمقا وتتسع دوائرها برعاية الدولة‏,‏ بينما تدعي إسرائيل أن الأصولية الدينية الإسلامية هي وحدها الإرهاب‏..!‏

وإسرائيل تطلب من العرب خطوات وإجراءات ومبادرات لبناء الثقة وإظهار حسن النيات‏,‏ بينما تقدم هي للعرب كل ما يؤدي إلي فقدان الثقة‏..‏ وتريد منهم تربية أبنائهم علي ثقافة السلام‏,‏ بينما تمنع هذه الثقافة في المدارس الإسرائيلية‏..‏ وتريد من العرب أن يتجاهلوا آيات القرآن والإنجيل التي تتحدث عن اليهود‏,‏ بينما تعلم أبناءها كل ما جاء في التوراة عن الأغيار وما يستحقونه من الهوان علي أيديهم‏..‏

هذا هو حالنا مع إسرائيل‏..‏

تريد إسرائيل من العرب إلغاء عقولهم‏..‏ وقبول كل ما هو ضد المنطق والعدل‏..‏ والرضوخ لشروط السلام الإسرائيلي الذي لم يعرف التاريخ مثيلا له في أي مرحلة من المراحل‏..‏

وإسرائيل وهي تتجاهل الحقائق واعتبارات العدالة‏,‏ تتجاهل حقيقة جوهرية كان يجب أن تكون هي أول من يدركها‏..‏ وهي أن علاقات الدول والشعوب إذا قامت علي الاغتصاب‏,‏ والإكراه‏,‏ والعنصرية‏,‏ فإنها تبقي متوترة‏,‏ وتتعمق في وعي الأجيال المتعاقبة مشاعر الإحساس بالظلم إلي أن تنفجر ولو بعد حين‏..‏ والدليل علي ذلك أن الشعب اليهودي لم يترك فرصة للنسيان أو الغفران لما لاقاه علي أيدي النازي رغم مرور أكثر من نصف قرن‏..‏ بل ولم ينس ما في أساطير التوراة‏..‏ ولم يكن العرب في موقف العداء لليهود‏..‏ فلماذا تكرر إسرائيل مأساة الشعب اليهودي علي الفلسطينيين وتختار أن تكون هي القوة العمياء التي تريد أن تفرض الظلم والقهر علي الآخرين‏..‏

ومنذ أيام كان وليم كوانت يتحدث في التليفزيون السوري فقال إن مشكلة إسرائيل أنها تريد السلام ولا تريد العدل‏..‏ ويوم تقبل العدل أساسا لعلاقتها مع العرب فسوف يقوم السلام‏..‏ وسوف يدوم‏..‏ وأعتقد أن هذا المفكر الأمريكي قد لخص الأزمة القائمة في الشعور العربي تجاه إسرائيل أحسن تلخيص‏.

 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف