أحلام 2000

ل أن يأتي عام‏2000‏ ظللنا نتحدث عنه وكأنه بعيد جدا‏,‏ حتي إننا عقدنا عشرات المؤتمرات للتفكير في إعداد مصر لعام‏2000,‏ ودعونا الخبراء الأجانب‏,‏ والعلماء المصريين في الخارج‏,‏ وعقدت لجان‏,‏ وأصبحت لدينا أطنان من الأوراق عن تصورات للنهضة الشاملة التي ستحققها مصر عند هذه المحطة من محطات الزمن‏,‏ وعندما جاء عام‏2000‏ بدأنا نقول ان الزمن سلسلة واحدة متعددة الحلقات لا انفصال بينها‏,‏ وان مسيرة الحياة مستمرة في‏2000‏ كما كانت قبلها‏,‏ ولن يتغير الكون من أجل نهاية قرن وبداية قرن‏.‏

ولا أعتقد في صحة هذا الرأي‏,‏ وأخشي من الاستسلام له‏,‏ لأن التاريخ يسير في بعض المراحل متدرجا وبطيئا وأحيانا يتلكأ أو يتوقف لبضع سنوات أو قرون كما حدث في مصر في عصور خضعت فيها مقاديرنا للاستعمار‏,‏ أو استبداد الحكام‏,‏ أو استغلال الطامعين الأجانب‏,‏ وامتدت هذه المرحلة عدة قرون الي أن بعثت مصر من جديد وبدأ التاريخ يسير بها في اتجاه البناء والتقدم والحضارة‏..‏ وحدث ذلك مرتين‏..‏ في عصر محمد علي‏..‏ وفي ثورة‏23‏ يوليو‏..‏ وبعد الجمود والظلام‏,‏ أضاء الأمل سماء مصر وتسارعت الخطوات وظهرت نتائج إحياء الآمال وايقاظ الهمم‏.‏

واعتقد أننا نعيش الآن في مرحلة ثالثة من مراحل الحركة‏,‏ واليقظة‏,‏ والطموح القومي‏,‏ وقد حققنا في هذه المرحلة ما يستحق أن نفخر به‏,‏ وما يحفزنا لمزيد من الحشد والتعبئة‏,‏ والسير بخطوات أوسع في الاتجاه الصحيح الذي بدأناه‏,‏ واستكمال مسيرة الاصلاح الشامل لكل المجالات والميادين لازالة آثار العدوان الطويل علينا‏,‏ الذي استمر قرونا وأفسد جوانب عديدة من حياتنا‏,‏ واضطررنا الي التخلف عن العالم المتحضر‏,‏ ومازالت معركتنا الأساسية هي اصلاح ما أفسدته قرون التخلف‏..‏ التخلف في العلوم والتعليم‏..‏ والتخلف عن الثورات الكبري التي شاركت فيها الدول الناهضة‏..‏ الثورة الصناعية‏..‏ وثورة العلوم الحديثة التي أثمرت كل هذا التقدم التكنولوجي الذي يبدو وكأنه من المعجزات‏,‏ ابتداء من الطاقة النووية واستخداماتها في الحرب والسلم‏,‏ الي استخدامات الليزر‏,‏ والمواد الجديدة‏,‏ والهندسة الوراثية التي توصلت الي استنساخ في كائنات حية من خلية‏,‏ وانتاج كميات من المنتجات الزراعية في المعمل كانت تحتاج الي مئات الأفدنة وآلاف الأيدي العاملة‏,‏ ووصل الانسان في الدول المتقدمة الي القمر‏,‏ وبدأ في غزو كواكب تبعد عن الأرض بملايين الأميال‏,‏ بما ينطوي عليه ذلك من امتلاك القدرة علي انتاج وقود‏,‏ ومواد صناعية تفوق في قوة احتمالها آلاف المرات قوة المواد التي كانت معروفة مثل الحديد والنحاس والصلب‏..‏

وباختصار كانت نتائج قرون الاحتلال‏,‏ والاستبداد‏,‏ والاستغلال‏,‏ أن توقف بنا الزمن وسار الآخرون في الطريق الصحيح‏,‏ وعندما بدأنا السير كانت هناك مسافة تفصل بيننا وبينهم‏,‏ وهذه حقيقة يجب أن تكون واضحة في الوعي‏,‏ ونعترف بها‏,‏ لكيلا نضلل أنفسنا بالكذب علي النفس‏,‏ أو بالعيش في الأوهام واحلام اليقظة‏.‏ ومن حسن الحظ أن احلامنا للقرن الجديد أحلام واقعية‏,‏ تبدأ من رؤية للواقع كما هو وبحجمه الحقيقي‏,‏ وبادراك لمكاننا في العالم‏,‏ وفي المنطقة التي تمثل المجال الطبيعي لدورنا التاريخي‏,‏ وهو دور لا ينبع من اختيار يمكن قبوله‏,‏ أو التنازل عنه‏,‏ ولكنه دور محتوم‏,‏ ظل علي مدي عصور‏,‏ وسيبقي مفروضا علينا بحكم الجغرافيا السياسية والتاريخ الحضاري لمصر‏.‏

أحلامنا في القرن الجديد تتلخص في النهضة بمعناها الواسع‏..‏ وكما استيقظت أوروبا بعد قرون من الركود والجمود والظلام وبدأت عصر نهضتها‏,‏ وكما فعلت اليابان‏,‏ فإننا نحن أيضا استيقظنا من الثبات العميق الذي فرضه علينا حكم الاستغلال الأجنبي واستبداد الحكام‏,‏ وبدأنا عصر نهضتنا التي تعتمد علي دعائم أساسية‏:‏ اصلاح الاقتصاد الذي أصابه الخلل حتي وصل في سنوات سابقة الي نقطة الخطر‏,‏ واستطعنا أن نصحح موازينه الأساسية‏,‏ ثم بدأنا في تنفيذ مشروع طموح لتعويض مافاتنا من بناء قاعدة صناعية متطورة وعصرية‏,‏ وزيادة مساحات الأرض وزيادة انتاجها‏,‏ وانشاء قاعدة للمجتمع العصري تشمل البنية الأساسية‏,‏ ودخول عصر المعلومات والالكترونيات‏,‏ كمنتجين للتكنولوجيا الحديثة دون الاكتفاء بدور المستهلك والمستورد لها‏.‏ وكل ذلك دون أن نغفل القيم الأساسية للحضارة‏:‏ العدل‏,‏ والقانون‏,‏ والحرية‏,‏ وكرامة الانسان في وطنه‏.‏

ولاشك أننا نمتلك مشروعا لاقامة حضارة جديدة‏..‏ ولدينا الوعي بالمصاعب والتحديات الخارجية والداخلية ولابد منها‏,‏ وأصبحنا مدركين أن كل من يسعي الي التقدم في هذا العصر عليه أن يخوض معارك ويتقبل النصر في بعضها والهزيمة في بعضها الآخر دون أن ينال ذلك من عزيمته وارادته وإصراره‏.‏

لدينا مشروع للنهضة‏:‏ نعم‏..‏ ولدينا الارادة والتصميم والقبول للتحديات‏:‏ نعم‏..‏ فماذا ينقصنا‏..‏؟

ينقصنا اعداد الدولة لهذه المعركة الحضارية الكبري وهي في حقيقتها معركة مصيرية‏..‏ وأمامنا مهام كثيرة صعبة تحتاج الي توحد المخلصين والحريصين علي المصلحة العامة لكي يبدأوا معا في بناء الجهاز الاداري علي أسس جديدة واعادة الروح والحيوية والقدرة علي المبادرة‏..‏ ونحتاج الي اعادة النظر فيما انجزناه حتي الآن في بناء الانسان‏..‏ فلم يعد لدينا وقت نضيعه في الحديث عن صعوبة هذه المهمة وسهولة بناء المصانع والمرافق‏..‏ فالتربية والاعلام والثقافة هي الميادين التي يتم فيها تكوين الانسان في أي مجتمع‏,‏ فإذا لم ننجح في غرس الولاء‏,‏ والانتماء‏,‏ والمسئولية الاجتماعية‏,‏ والانضباط‏,‏ وادراك المصلحة العامة‏,‏ والقدرة علي العمل الجماعي المشترك‏,‏ وكبح جماح الشيطان الذي يسكن كل انسان ويوعز اليه بأن يسلب لنفسه ما ليس له‏,‏ ويحقق لنفسه أطماعها علي حساب حقوق الآخرين‏,‏ وهذا ما يفتح الباب للفساد‏,‏ والاستغلال‏,‏ والاحتكار‏,‏ والرشوة‏,‏ والنفاق‏,‏ وسائر الآفات الاخلاقية والاجتماعية التي تهدد أي مجتمع‏.‏

العلم‏,‏ والقانون‏,‏ والحرية‏,‏ هذا المثلث الذهبي فيه سر التفوق في السباق العالمي نحو التقدم‏,‏ وبغياب‏,‏ أو ضعف‏,‏ أحد أضلاع هذا المثلث لايمكن تحقيق النهضة‏,‏ وبالحرص علي هذا المثلث المقدس في الضمير العام للمجتمع‏,‏ وفي سلوك القادة والعامة‏,‏ تتفجر في الفرد وفي المجتمع أشبه بانفجار الذرة‏,‏ ويتحول المجتمع الي مجتمع المنتجين والمبدعين‏..‏ مجتمع كل فرد فيه مسلح بقدر مناسب من التعليم الجيد‏,‏ ولديه القدرة علي ادراك قيمة العلم والعلماء‏,‏ ويعطي الفرصة لأصحاب المواهب والقدرات‏..‏ مجتمع يشعر فيه كل انسان انه حر‏,‏ وانه يمارس حرية التفكير‏,‏ وحرية التعبير‏,‏ وحرية القول والمبادرة‏,‏ دون ملاحقة أو ضغط أو كبت من أي نوع‏..‏ مجتمع يحترم القانون‏,‏ والقاعدة‏,‏ والنظام‏,‏ وحقوق الآخرين‏,‏ ويحاسب دون محاباة‏,‏ أو تحايل علي الحق‏,‏ هذا المجتمع هو الذي يوقظ في كل فرد الرغبة في العمل‏,‏ والرغبة في النجاح‏,‏ والقدرة علي الخدمة العامة‏,‏ والمشاركة في كل عمل جماعي للصالح العام‏,‏ والتضحية بالمال والجهد من أجل البلد‏.‏

الحلم المصري في عام‏2000‏ وما بعده يتلخص في النهضة‏..‏ وهو حلم ممكن‏,‏ والمصريون قادرون علي تحقيقه‏,‏ وقد ساروا خطوات وفي الامكان إسراع الخطي وترشيدها‏..‏ ولتكن هذه هي رسالة كل منا في هذا العام الجديد الذي يفتتح عصرا جديدا‏.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف