في الاحتفال المهيب لتكريم الرئيس مبارك للدكتور أحمد زويل بمنحه قلادة النيل, وهي أرفع وسام في مصر, كان أشبه بلقاء الأسرة في ليلة من ليالي رمضان وهي تحتفل بابنها الغائب الذي عاد منتصرا يحمل لها جائزة نوبل أكبر جائزة عالمية.. وكان الرئيس مبارك ـ كعادته ـ صاحب رؤية مستقبلية تستوعب الماضي والحاضر وتمتد الي آفاق المستقبل لتحقيق الحلم المصري. وقد عبر عن هذه الرؤية في كلمته في هذا الحفل.
والقضايا التي طرحها الرئيس في هذا اللقاء الذي ضم كل الرموز المصرية الممثلة لقطاعات ومؤسسات الدولة, هي في حقيقتها أجندة النهضة أو هي جدول أعمال للقرن الحادي والعشرين الذي سيبدأ بعد أيام, لكي تدخل مصر هذا القرن بما يليق بها, والحلم المصري كما يعبر عنه الرئيس مبارك في الخطب التي ألقاها منذ بدء الولاية الجديدة تعتمد علي أربع دعائم رئيسية: الدعامة الأولي هي تنمية الاقتصاد الوطني وتحسين مستوي المنتجات المصرية وما يترتب علي ذلك من زيادة الصادرات.. والدعامة الثانية هي تعميق الممارسة الديمقراطية وزيادة مساحة الحريات.. والدعامة الثالثة هي الاصلاح الاجتماعي وترسيخ قيم الأسرة, والعمل, والمشاركة, والتكافل.. والدعامة الرابعة هي تغيير نظم التعليم والبحث العلمي من منطلق انهما عنصران أساسيان من عناصر الأمن القومي, وهما أساس كل نهضة وكل تقدم في العالم.
والاحتفال بتكريم أحمد زويل جعل قضايا النهضة العلمية في مقدمة الأولويات, وفرض علينا إعادة التفكير في الأوضاع القائمة لنصل الي ضرورة التغيير في هذا الميدان الذي لم يشهد حتي الآن تغييرا حقيقيا, ابتداء من تغيير فلسفة واستراتيجية وأهداف البحث العلمي في مصر, الي تغيير مؤسسي في مراكز ومواقع البحث العلمي, الي تغيير أساليب ونظم العمل, وتغيير عقلية الادارة, وتوفير الأجهزة والمعامل والمكتبات, وانتهاء بوضع آليات فاعلة للاستفادة من نتائج البحوث في الصناعة والخدمات, وايجاد جسور بين البحث العلمي والتطبيق في المجتمع, أما كفاءة الباحثين فقد أثبت الدكتور أحمد زويل ان العبقرية المصرية قادرة علي العطاء وعلي أعلي مستوي علمي عالمي, اذا وجدت الفرصة, والمناخ, والامكانات.
والقضايا الجوهرية التي طرحها الرئيس مبارك في هذا اللقاء يجب أن تلقي آذانا صاغية, وعقولا متفتحة, لأن هذه القضايا تمثل معالم الطريق للصعود العلمي الحقيقي الي مستوي العصر, وأول قضية هي قضية روح البحث العلمي.. هل هي روح فردية أم هي روح جماعية..؟ والرئيس مبارك يلفت النظر الي أن تقدم البحث العلمي في الدول الكبري لم يحقق فتوحاته الكبري إلا أن المجتمع مجتمع علمي مهتم بالعلم, ومشارك في تطويره, ومتابع لإنجازاته, ومقدر لانتصاراته, ومشجع لعلمائه, ولأن هذا المجتمع العلمي يؤمن بالعمل الجماعي, وبروح الفريق, واستقرت فيه تقاليد البحث العلمي علي أساس ان العبقرية الفردية لها دورها الرائد, ولكن الانجازات الكبري لا تتحقق إلا بعمل فريق متكامل ومتجانس, وهذا هو الفكر الجديد الذي يجب أن تتبناه وتسير عليه المؤسسات العلمية في مصر, بحيث تنتهي ظاهرة الجزر المنعزلة التي يعمل فيها كل باحث وحده, بما يترتب علي ذلك من قصور الجهد الفردي عن بلوغ غاية صعبة, ومن تكرار الجهد وتبديد الطاقة والجهد والمال.. والانجازات الكبري في العلم لا تتحقق في ظروف البحث العلمي الآن إلا بتعاون مجموعات الباحثين, وقد أصبحت العبقرية الجماعية هي سمة هذا العصر.
وهذه الفكرة علي بساطتها ووضوحها ليست متأصلة في العقل العربي عموما, ومازال هناك من يؤمن في قرارة نفسه بأن العبقرية العربية عبقرية فردية, فالتاريخ صنعه أفراد سجلهم التاريخ وأهمل من كانوا معهم, وانجازات العلوم في عصر ازدهار الحضارة العربية كانت نتاج عبقرية أفراد, مثل الرازي, والخوارزمي, وابن الهيثم, وغيرهم, والعقل العربي عموما يغلب عليه طابع الشعر. والشعر والأدب عموما من إبداع وعبقرية أفراد.
وان كان في هذا التصور منطق, إلا انه ليس صحيحا علي اطلاقه, ويمكن غرس اتجاهات جديده في العقول لكي تؤمن بأهمية العمل الجماعي, والدكتور أحمد زويل هو المثل القريب لما يحققه العمل الجماعي, فهو لم يحقق وحدة الثورة العلمية التي استحق عليها كل هذا التكريم, ولكنه كان صاحب الفكرة والإلهام.. والإبداع.. ولكنه حقق انجازاته الكبري بقيادته فريقا من المساعدين علي مستوي عال من الكفاءة والخبرة بلغ عدد أفراده مائة وخمسين باحثا.. ولكي نحقق انجازات علمية ذات قيمة كبيرة بمقاييس العلم الحديث فلابد أن نبدأ بالتغيير في أسلوب التفكير وأسلوب العمل وبعد ذلك فإن كل شيء ممكن.
والقضية المهمة التي طرحها الرئيس هي دعوته للعلماء المصريين المهاجرين والذين سافروا للعمل في الخارج لكي يشاركوا في مشروع مبارك لنهضة مصر العلمية, بالحضور الي مصر في زيارات منظمة ومخططة ووفق برنامج يتم اعداده جيدا, لكي يكون حضورهم مثمرا, وليشاركوا مشاركة مؤثرة ومنتجة بأفكارهم, ومقترحاتهم, وتبني عدد من شباب الباحثين في مصر للإشراف عليهم في اعداد أبحاثهم للماجستير والدكتوراه, والمشاركة كمستشارين في المراكز وفي الأبحاث.. وهذا مشروع كبير ويحتاج الي إعداد وتحضير لأن هؤلاء العلماء لن يتأخروا عن تلبية النداء, ولسنا في حاجة الي الحديث عن الشخصية المصرية التي تعيش العمر كله مرتبطة بجذورها مهما طال بها زمن الاغتراب, ومهما حققت من نجاح في الخارج فإنها لا تشعر بطعم النجاح إلا في وطنها وبين أهلها.. وهذا ما عبر عنه الدكتور أحمد زويل حين قال انه حصل علي تكريم من جهات ودول كثيرة في العالم, ولكن تكريم مصر له.. له القيمة الأكبر في نفسه.. لن يتأخر العلماء عن المشاركة في هذا المشروع الكبير الذي أعلنه الرئيس.. ويبقي أن يكون التنفيذ بالجدية والفاعلية الواجبة..
ويلزم لتنفيذ هذا المشروع علي النحو الذي طرحه الرئيس ان نبدأ بإعداد قاعدة معلومات عن كل العلماء المصريين في الخارج وتخصصاتهم, وانشاء جهاز متخصص للاتصال بهم والتعرف علي المجالات التي يمكن أن يساهموا فيها, ويخطط وينظم زياراتهم لتكون كلها عمل منتج, ولا تترك مثل هذه المهمة للأجهزة الادارية لتنفيذها بالبيروقراطية المعهودة, ويمكن أن نستفيد بما تفعله دول أخري تجعل زيارة كل عالم ينتمي اليها فرضا واجبا عليه, وضريبة لوطنه لابد أن يؤديها طواعية وبدافع من الضمير, وتنظم هذه الزيارات تنظيما جيدا, فيقضي العالم فترة كافية يجري خلالها أبحاثه, ويتولي تدريب وتوجيه شباب الباحثين, ويشارك في تطوير العمل.. وينقل الخبرة المتقدمة في البحث العلمي بمفاهيمه ومناهجه الحديثة.
وليس أمام الأجهزة المسئولة عن البحث العلمي حجة اذا لم تحقق مشروع مبارك للنهضة العلمية والتكنولوجية بعد أن أعلن الرئيس في احتفال الدكتور زويل انه لن يتردد في تقديم أقصي الدعم الممكن لهذا المشروع القومي الكبير..
ونرجو ألا ننتظر طويلا لنري النتائج.