منذ أكثر من عشر سنوات حذرنا عالم الاجتماع الدكتور حسن الساعاتي من التهاون في فهم وتقدير أهمية التغيرات التي حدثت في الشباب, فشباب هذا الجيل مختلف كليةعن شباب الجيل الماضي, فهم يعيشون في عالم بتغير فيه كل شيئ بسرعة.. الأفكار والقيم والسياسات.. ويتعاملون كل يوم مع تكنولوجيات جديدة يمثل الكمبيوتر والإنترنت والتليفون المحمول بعض مظاهرها.. ويعيشون في مجتمع يعتمد سياسة الانفتاح السياسي والاقتصادي ويتجه إلي اقتصاديات السوق بما فيها من المنافسة والتحريض علي الاستهلاك, ويواجهون تدفق المعلومات من إذاعات وفضائيات تأتيهم من كل أركان العالم..
والنتيجة أن شباب هذا الجيل أصبحت له مكونات ثقافية وحضارية مختلفة عن العوامل التي كونت عقول وقيم وسلوك جيل الآباء أو الأجداد, ونتيجة شعور جيل الشباب بأنهم مختلفون عن آبائهم وأجدادهم, تولدت فجوة بين الجيلين, وهذه الفجوة في ذاتها ليست مشكلة ولا تدعو للقلق, لأن وجودها أمر طبيعي علي مسار حياة البشرية, وهي دليل علي أن المجتمع يتقدم ويتجدد ولا يكرر نفسه.. فليس هناك خطر في أن يكون الجيل الجديد مختلفا عن الأجيال السابقة, بل إن هذه علامة حيوية في المجتمع وإشارة إلي أنه يسير إلي الأمام, وأن الغد أفضل من اليوم.. ولكن الخطر هو الا تكون هناك جسور تواصل وتفاهم بين الأجيال تجعل التفاهم بينهما قائما, وقائما علي احترام تجربة الآباء والاستفادة منها والاضافة إليها.. وإذا لم يكن هذا الجسد قائما وموصلا بين الأجيال فإن المجتمع يكون مهددا بحدوث انقطاع في مسيرته.. وعزلة كل جيل عن الآخر.. ويصبح لكل جيل فكره وقيمه وسلوكه وثقافته وفلسفته في الحياة, ويرفض ما لدي الآخر, ويتبادل كل منهما الاتهامات للآخر, وهذا ما ينبغي أن نكون في غاية الحذر من أن يحدث.
وأمام جيل الشباب صعوبات يجب أن نقدرها.. حق قدرها التفاوت في الثرواث والدخول, والبطالة, وانهماك الكثيرين في أعمال مشروعة وغير مشروعة لزيادة ثرواتهم, والحركة الثقافية لا تقدم غذاء حقيقيا يحرك في الشباب الدوافع والقيم الإيجابية للعمل والتعامل, والأكثر من ذلك أن الآباء والأمهات مشغولون بأنفسهم وبمتابعتهم, وليس لديهم الوقت الكافي للمحافظة علي علاقة حميمة وسليمة مع أبنائهم, ولم يعد البيت مكاناللعلاقات الحميمة, والتربويون مشغولون بمشاكل حياتهم والبحث عن زيادة دخولهم بتجارة بالدروس الخصوصية, ولم يعد الشاب يجد نماذج كثيرة للمعلم الذي يقف له ويوفيه التبجيلا لأنه كاد أن يكون رسولا كما كان يقول أمير الشعراء أحمد شوقي.. لأن الشاب لا يجد كثيرا من المدرسين يلمس فيهم الايثار, والتضحية, والاستعداد للعطاء, والرعاية الحقيقية للشباب كأبناء وليس كزبائن.!
والشباب بطبيعة مرحلة نموه متمرد لأنه يبحث لنفسه عن مكان متميز في المجتمع ويريد أن يثبت ذاته ويؤكد استقلاله.. وهو مندفع ومتعجل.. وهو مثالي ومتعصب.. وهو قلق ورافض للحياة الرتيبة النمطية أو الروتينية ويبحث عن التجديد والإثارة.. وهو قليل الخبرة شديد الطموح ومسرف في الثقة في النفس.. وكل هذه سمات إيجابية لأنها هي التي تجعل الشباب يندفع ويسعي للعمل وفقا لمعتقداته.. وهذا هو بيت القصيد.. أن تكون هذه المعتقدات.. التي تمثل الدافع الأول للسلوك والعمل.. معتقدات سليمة وايجابية وبناءة.. وإذا لم ينتبه جيل الآباء فمن السهل أن ينخدع الشباب, ويقبل علي بضاعة فكرية فأسرة أو زائفة وهو لا يدري لأنه لم يكتسب بعد الخبرة التي تمكنه من التمييز, والنقد, والانتقاء. فإذا تركنا ساحة الفكر الديني للكتب والجماعات التي تنشر النظريات والتفسيرات الغريبة أو المنحرفة أو التي تروج الخرافات, أو التي تخاطب غرائز الشباب وتستثيريرها وتتملق غرائزه كوسيلة للتجارة.. إذا تركنا كل أو بعض هذا الفكر فليس لنا بعد ذلك أن نلوم الشباب لأنه سيكون ضحية, وسنكون نحن مسئولين بالإهمال, أو بالتراخي, أو بعدم التقدير, عن هذا التدهور أو الانحلال أو الفساد.
والشباب يواجه مشاكل مع نفسه ومع أهله ومع أصدقائه ومع المجتمع.. مشاكل التكيف.. وهو يحتاج إلي من يفضي إليه بأسراره, ويكشف له عن همومه, ويلتمس عنده النصيحة, ولا يفعل ذلك إلا مع صديق قريب منه نفسيا وعقليا, يلتمس منه صدق المشاعر والقدرة علي الفهم دون اتخاذ موقف الناصح المتعالي, والاستعداد للتوجيه بدون فرض للرأي أو تسلط.. وإذا لم يجد الشاب هذا الصديق فقد يقع في أصدقاء السوء, وما أكثرهم, وهنا تزداد الظواهر التي نشكو منها: وقوع بعض الشباب فريسة للمخدرات, أو للجريمة, أو للتطرف والانحراف, وكلها أعراض لمرض واحد, بينما يقع البعض الآخر علي الطريق الصحيح, فيجد البيئة الصالحة, ورفقاء صالحين, وموجهين صالحين يستلهم منهم أفكارهم ويمتص منهم المبادئ والمثل الأعلي.
وعلماء التربية يؤكدون مبدأ يرون أنه في مرئية القانون, وهو أنه ليس هناك طفل أو شاب هو في ذاته مشكلة, ولكن المشكلة في الشباب تكمن في الاباء والمعلمين والرفقاء, أن أي الكبار هم المشكلة, لأن الطفل كان بين أيديهم فأهملوا تشكيل عقله ووجدانه, والشاب كان أمامهم ـ في البيت والمدرسة والنادي وأمام التليفزيون ـ فلم ينجحوا في غرس القيم السليمة فيهم.. ومن يزرع شيئا يحصده.. ومن يهمل شيئا يفقده.. والقاعدة الشرعية في حد السرقة ألا يقام الحد إلا إذا كان الشئ المسروق في حرز, أي في مكان آمن وتتوافر فيه الحماية المعقولة, أما إذا لم يحسن صاحب الشيئ حمايته فلا يجوز قطع يد السارق, ويكتفي بالتعزير أي بعقوبة للردع.
ويطول الحديث عن تحليل الظواهر السائدة بين شباب الجيل الجديد, وليست كلها ظواهر سلبية,, لكن منها الكثير من الظواهر الايجابية التي تدعو للأمل, ولكن ـ كما هي العادة ـ فإن الظواهر السلبية والانحرافات بين الشباب هي التي تلفت النظر وتثير القلق, حرصا علي المستقبل.. ويقودنا ذلك إلي دور وزارة الشباب الجديدة.. ماذا يمكن أن تفعل لتقليل الفجوة بين الأجيال, وبناء جسور تفاهم واحترام متبادل بين الآباء ـ ومن في حكمهم ـ وبين الأبناء..؟
في رأيي أن أول مشكلة هي اننا نتحدث عن شباب لا نعرفه بدقة.. ولم ندرس دراسة علمية كافية التغيرات التي طرأت عليه.. وليست هناك بحوث موثوق فيها تبين لنا كيف يفكر شباب اليوم.. وما هي أحلامه وطموحاته.. وما هي همومه ومشاكله.. وما هي تصوراته للمستقبل.. وما هي مطالبه ومقترحاته.. وما هي حقيقة مشاعره تجاه الجيل السابق.. كذلك لم يحدث أن عقد مؤتمر علمي يجمع بين الشباب أنفسهم وبين علماء الاجتماع وعلماء النفس, مع خبراء السياسة والإعلام والتربية ورعاية الشباب والوزارات التي تسهم في تكوين الشباب معا لوضع رؤية متكاملة وخطة عمل لرعاية الشباب.. فكل ما لدينا اجتهادات.. وبحوث جزئية.. وتصورات أو انطباعات فردية.. ولدينا أيضا روح الدفاع عن النفس, والاندفاع إلي تبرير كل ما فعلناه وما نفعله, وفقا لمبدأ ابقاء كل شئ علي ما هو عليه, بدعوي الاستقرار, أو بدعوي أن كل ما هو قائم هو أفضل ما يمكن أن يكون..
ومن هنا أري أن وزارة الشباب عليها أولا أن تبدأ بداية جديدة, ومختلفة كل الاختلافات عن البدايات السابقة, بداية نسمع فيها إلي صوت الشباب, ويجد فيها الشباب الفرصة الكاملة للتعبير عما في نفوسهم وفكرهم دون حساسيات أو محاذير, ولتكن هذه مرحلة من الفضفضة يفتح فيها الشباب قلبه ويقول بصوت عال كل ما لديه, وبعد ذلك يبدأ حوار بين الأجيال, ليس هدفه اخضاع أو اقناع الشباب بما نريد, ولكن هدفه الوصول إلي تفاهم مشترك, واتفاق علي مبادئ ترضي الشباب وتحقق صالح المجتمع.
وبغير هذه البداية ربما تستطيع الوزارة إنشاء مراكز للشباب تقدم أنشطة, ولكنها ستكون كالعربة الطائشة, تسير بلا خرائط.