وزارة الشباب وحدها لا تستطيع

صبحت قضية مشاركة الشباب في العمل العام من زولويات فترة الحكم الجديدة‏,‏ كما أعلن الرئيس مبارك في خطابه الأخير‏,‏ وأصبح علي الحكومة الزاما ان توفر الرعاية الشاملة لهذه القوة الحيوية التي تزيد علي نصف سكان مصر‏:18‏ مليونا منهم في مراحل التعليم ومثلهم في سن العمل‏.‏

ولكي يضع الرئيس مبارك الحكوة أمام مسئوليتها حرص علي إنشاء وزارة الشباب‏,‏ وطلب توفير كل الإمكانات التي تمكنها من التواصل مع عصر التكنولوجيا‏.‏ وطلب أيضا الاستمرار في تحديث التعليم عموما‏,‏ وتقديم تعليم متميز للموهوبين والمتفوقين لإعداد علماء وخبراء ومبدعين‏,‏ واعداد الشباب لسوق العمل في مراكز التدريب‏,‏ وتوفير الاسكان للشباب بتعاون الدولة والبنوك والقادرين ورجال الأعمال‏..‏ وهذا البرنامج الشامل لرعاية الشباب لا تستطيع وزارة الشباب تنفيذه ولا يمكن أن يكون مسئوليتها وحدها‏,‏ ولكنه مسئولية كل الوزارات وكل المجتمع بمنظماته وأفراده‏,‏ ولا يمكن ان يتحقق ذلك إلا بأن يكون هناك تصور واضح ومحدد للاهداف وفلسفة العمل مع الشباب‏,‏ وتوزيع الأدوار بين أجهزة الحكومة المركزية والمحليات والمنظمات الشعبية‏,‏ وتنسيق بين هذه الأدوار علي أن تكون وزارة الشباب مسئولة عن اعداد الخطط والبرامج‏,‏ والتعاون مع الجهات المتعددة التي يتصل نشاطها بالشباب في تنفيذ هذه البرامج‏,‏ والتنسيق بينها حتي لا يحدث تكرار أو تعاوض‏,‏ أو تناقض بين هذه الجهات‏.‏

والحقيقة أن مهمة وزارة الشباب الجديدة مهمة صعبة‏,‏ لأنها تبدأ بعد عشرات التجارب التي اجهضت جميعها خلال أكثر من نصف قرن ولم تكتمل‏,‏ بين انشاء وزارة للشباب‏,‏ وهدمها‏,‏ ثم انشاء مجلس أعلي للشباب‏,‏ ثم هدمه للعودة الي وزارة للشباب مرة أخري وهكذا‏..‏ والتاريخ طويل‏,‏ ومليء بتجارب سلبية وايجابية‏,‏ ولكن هذه التجارب جميعها كانت تصطدم بنفس المشاكل والعقبات‏..‏ واولاها ان كل وزارة وكل جهة تريد ان تعمل وحدها‏,‏ لكي تنسب نتائج عملها لها وحدها‏,‏ وهذه الروح الفردية في الوزارات والوزراء كانت وراء فشل تجارب وزارات ومجالس الشباب السابقة‏.‏ ولم يحدث أبدا ان تعاونت كل الوزارات وكل الجمعيات‏,‏ وكل الهيئات‏,‏ في تنفيذ مخطط أو برنامج واحد‏,‏ ودائما هناك من يبني‏,‏ ومن يهدم‏,‏ ومن يعوق‏,‏ ومن يخشي أن يحقق المسئول عن الشباب نجاحا ينسب اليه أو يكون في الصورة وحده‏.‏

ولو كان هناك تعاون حقيقي لما كان حال مراكز الشباب قد وصل الي ما هو عليه من تدهور وانهيار بحيث أصبحت هذه المراكز مجرد ساحات مهجورة‏,‏ بلا قيادات فنية مؤهلة أو صالحة‏,‏ وبلا إمكانات‏,‏ وبلا ميزانيات حقيقية‏,‏ وبلا متابعة أو رقابة‏,‏ وان كانت مجتهدة في رفع تقارير وردية كاذبة عن انجازات ومشروعات لم تنفذ‏,‏ أما في الريف فقد تحولت هذه المراكز الي أماكن تخدم أغراضا أخري غير رعاية الشباب‏.‏ والسبب في ذلك أن الوزارات والمحافظات والوزراء والمحافظين وبالتالي رؤساء المدن والقري يرون أن رعاية الشباب ليست قضية من القضايا الهامشية يكفي الحديث عنها دون ان يبذلوا فيها جهدهم أو يخصصوا لها بعض الأموال والامكانات‏,‏ أو يقدموا لها حتي الدعم المعنوي والاهتمام‏.‏

من ناحية أخري فان مفهوم رعاية الشباب ذاته تعرض لانحراف شديد‏,‏ فقد ابتعد عن المفهوم التكاملي الذي يعني رعاية الشاب بدنيا ونفسيا واجتماعيا‏,‏ واعداده للحياة السوية والقيام بدور في المجتمع‏,‏ وغرس القيم السياسية والدينية والاخلاقية السليمة فيه من خلال الممارسة والسلوك والقدوة وليس من خلال التلقين والخطب الرنانة‏,‏ فاصبح مفهوم رعاية الشباب ينحصر في انفاق كل الميزانيات لاعداد فرق محدودة العدد للبطولات الرياضية وحرمان الملايين من الشباب من حقهم في ممارسة الرياضة بهدف اكتساب القيم السلوكية التي ترتبط بها في المقام الاول‏..‏ انحصر دور أجهزة الشباب في اعداد هذه الفرق‏,‏ واصبح الحساب معها مقصورا علي الفوز أو الهزيمة في المسابقات الرياضية‏,‏ ولم يلفت أحد الي الحرمان الذي يعانية ملايين الشباب‏..‏ الحرمان من الرعاية بالمفهوم الحقيقي‏.‏

ويبدو ان العقدة النفسية التي أصابت البعض من منظمة الشباب التي انشئت وانتشرت في الستينات قد جعلتهم يقفون موقف العداء من كل دعوة الي ضرورة توعية الشباب بالمباديء والقيم السياسية لاعدادهم للقيام بمسئولياتهم في الاحزاب‏,‏ أو في المجالس الشعبية‏,‏ أو في الجمعيات‏,‏ أو حتي في مجالات عملهم‏..‏ وكانت النتيجة أن أصبح لدينا جيل من الشباب لا يعرف شيئا عن الدستور‏,‏ أو التطورات والعلاقات الدولية‏,‏ ولم يجد الفرصة لتفهم طبيعة النظام السياسي والاقتصادي في مصر‏,‏ ولم يشارك في حوار مفتوح عن القضايا الرئيسية المطروحة التي يسمع عنها التي تحدد معالم المستقبل‏,‏ وهو بعيد عنها‏,‏ وغير متفهم لابعادها‏,‏ ولاشك أن هذا الشباب معذور اذا وقع بعد ذلك ضحية في شباك من يغرس فيه مفاهيم وأفكارا منحرفة في الدين أو السياسة‏,‏ ومعذور أيضا اذا انكفأ علي ذاته وانشغل بنفسه وانصرف عن الاهتمام بالقضايا والموضوعات العامة وبشئون الوطن‏..‏ لانه ليس مدعوا لأي حوار حول أي موضوع أو قضية من قضايا الوطن‏,‏ وليس له مكان أو دور يشعر فيه بذاته وينمي فيه قدراته وشخصيته‏,‏ ولقد تكررت الدعوة الي أهمية الثقافة الدينية والوطنية والسياسية للشباب‏,‏ ليس بمعني تكرار ما كان يحدث في منظمة الشباب في الستينات‏,‏ فقد كان أسلوب المنظمة في ذلك الزمن متسقا مع نظام الحكم وفلسفته وأهدافه ومع المناخ الدولي والحرب الباردة‏,‏ وتغيرت كل هذه الظروف وتغيرت أفكارنا معها‏..‏ وتحول المجتمع العربي من الشمولية الي الليبرالية‏..‏ ومن سيطرة الدولة علي وسائل الانتاج الي دور جديد للدولة ودور كبير للقطاع الخاص والمبادرات الفردية‏,‏ وظهرت مفاهيم العولمة‏,‏

ما تحمله من مخاطر علي الصناعة وعلي الشخصية الوطنية‏,‏ كما سادت مباديء الديمقراطية وحقوق الانسان والتسامح الديني والسياسي والفكري‏,‏ وأصبح التقدم العلمي هو العنصر الحاكم الذي يحدد مكانة الدولة علي خريطة العالم‏,‏ وتغيرت عناصر قوة الدولة‏,‏ وأصبح العنصر البشري من حيث النوع وليس من حيث الكم هو الضمان للتفوق والتقدم والامان‏,‏ وظهر شعار ثقافة السلام بمفاهيم وتفسيرات تختلف من دولة عن الأخري‏..‏

ومن الطبيعي أن يشعر الشباب بالحيرة ويعاني القلق والشك أمام هذا السيل من الافكار‏.‏ بين من يدافع بقوة عن القيم والمباديء القديمة ويستميت في الدعوة للعودة الي الماضي الجميل‏,‏ ومن يدعو علي الجانب الآخر للتقدم نحو العصر الجديد والمشاركة فيه بقوة ودون تردد‏,‏ ومن يكتفي بترديد الشعارات الفارغة التي يطالب فيها الشباب بالعمل وخدمة الوطن‏,‏ وتحمل المسئولية‏,‏ دون أن يحدد للشباب ماذا يفعل بالضبط لكي يخدم الوطن ويتحمل مسئوليته‏,‏ ودون أن تكون هناك مجالات حقيقية أمام الشباب للمشاركة‏..‏ ولم يدرك المسئولون عن الشباب أن عملية الشحن المستمر للشباب واثارة حماسه للعمل‏,‏ دون أن يكون هناك عمل يمكن أن يوجه اليه الشباب طاقته‏,‏ سيؤدي الي أن توجه هذه الطاقة الي سبل منحرفة‏,‏ لأن الشباب طاقة‏,‏ وحماس‏,‏ وانفعال‏,‏ مثل السيل المتدفق‏,‏ ان لم يجد نهرا ينظم تدفقه‏,‏ فان هذه الطاقة تندفع عشوائيا الي حيث يفتح الآخرون أمامها طريقا‏.‏

من هنا أقول إن هذا هو الوقت كي تولي الحكومة كلها كل الاهتمام للشباب وتدرك ما يقصده الرئيس حين توقف طويلا في خطابه عند هذه القضية‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف