لماذا نجيب محفوظ هنا و أحمد زويل هناك؟
مصريان حصلا علي جائزة نوبل ودخلا التاريخ, نجيب محفوظ وأحمد زويل, وكل منهما نموذج للعبقرية المصرية ـ العربية, وكل منهما يجمع بين الموهبة, والمثابرة, والمقدرة غير العادية علي العمل الجاد والشاق, وكلاهما كان الطموح منذ بداياته يمنحه القوة والعزيمة والصبر علي مشاق السير في الطريق الصعب الذي اختاره.. وإلي الهدف الذي وضعه لنفسه وسعي إليه بكل قوة.. ومن هنا نقول إن في أسلوب حياة كل منهما قدوة للشباب يجب إبرازها لتشجيع أصحاب المواهب علي اختيار الطريق السليم ورعاية مواهبهم.
وفي الوقت نفسه يلفت النظر أن الذي حصل علي نوبل في الادب عاش حياته كلها في مصر لم يغادرها... والذي حصل علي نوبل في العلوم تفتحت مواهبه وظهرت عبقريته وأحرز انتصاراته العلمية خارج مصر, والإجابة معروفة علي سؤلنا: هل كان يمكن ان يصل أحمد زويل إلي هذه الدرجة الرفيعة عالميا لو كان قد بقي في مصر عمره كله كما فعل نجيب محفوظ..؟ وربما كان أول من لفت نظره إلي الحقيقة أستاذه في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية حين لفت نظره ان الطالب أحمد زويل يلح عليه بأسئلة صعبة وعميقة يحتار فيها الاستاذ الذي لايعرف أكثر مما في الكتاب الذي يدرسه للتلاميذ والتجارب التي يكررها كل سنة لأغراض التعليم, وعندما ضاق بالفضول العلمي وتطلع العقل المتوهج لاحمد زويل قال له عبارة مازالت تتردد في مدرجات الكلية لكل من جاءوا بعده: يا أحمد زويل... مهما عملت فلن تزيد عن ان تكون مدرسا للعلوم في مدرسة إعدادي!
عبقرية أحمد زويل نبتت في مصر وأمثاله موجودون قطعا في التربة المصرية ـ لانه يستحيل عقلا تصور ان مجتمعا انجب مثل هذه العبقرية في غفلة من الزمان وغير قابلة للتكرار.
وإذا كان أحمد زويل قد وجد الفرصة ـ بإصراره وعزيمته ـ للبقاء في الولايات المتحدة, حيث وجد المناخ العلمي, والتشجيع, والمساعدة, وحيث اتيحت له الإمكانات المالية والأجهزة المتقدمة, وحيث وجد المساعدين والزملاء المتعاونين, فهل يمكن ان يجد أمثاله ـ هنا ـ مثل هذه الفرص؟ واذا كانت الإجابة بالنفي, وهي كذلك, فكيف يمكن ان نغير أوضاع ومناخ البحث العلمي بحيث يسمح بتفتح المواهب والقدرات ويساعد علي الابتكار والإبداع..؟
المسألة لاتتعلق بوزير البحث العلمي, ولابوزارة البحث العلمي, المسألة أكبر وأعم, وأشمل فهي تتعلق بأوضاع البحث العلمي ككل, وبالمناخ العلمي الذي يساعد أو يقتل البراعم العلمية الواعدة, كما تتعلق بالإمكانات التي يقدمها المجتمع كله للبحث العلمي, وبمكانة العلماء في المجتمع, وهل يجدون التقديرالذي يستحقونه.. واين هم في السلم الاجتماعي.. هل هم علي القمة أو هم في القاع.. وهل هم في درجة أعلي أو أقل اجتماعيا من لاعبي الكرة, وراقصات الأفراح, وأثرياء الانفتاح..؟
وأعتقد أن المجتمع المصري بأوضاعه الحالية قادر علي انجاب نجيب محفوظ آخر... لان الإبداع والتفوق في الادب والفن, يتوقف علي الفرد وحده, أكثر مما يتوقف علي غيره, التفوق الادبي تفوق فردي, صحيح ان هناك مناخا لازدهار الادب ومناخا لقتله مثل: حرية التفكير... ووجود أساتذة ومفكرين يمكن ان يتتلمذ الاديب الشاب عليهم, ولو من بعيد وبطريق غير مباشر.. ولكن في النهاية سنجد ان نجيب محفوظ تنبه إلي موهبته مبكرا, وكرس حياته لرعايتها, وعاش حياة أقرب إلي حياة الجندية, يعيش الحياة بكل مافيها دون تحفظ,. ويختزن الصور والتجارب والشخصيات, ويقرأ ويدرس ويتابع الانتاج الادبي والفلسفي العربي والاجنبي, ويأخذ نفسه بمنتهي الشدة في نظام حياة صارم يكتب فيه كل يوم, حتي ملأ المكتبة العربية بكل هذه الروائع.. لم يكن في حاجة إلي مراجع نادرة, ولا إلي معامل مجهزة بأجهزة شديدة التعقيد, ولا إلي مجموعة من المعاونين علي درجة عالية من التخصص والكفاءة, ولا إلي أموال كثيرة لإنفاقها في أبحاثه, كان في حاجة فقط إلي الوحدة والهدوء بعض الوقت ليكتب, وإلي دار نشر لتقدم إبداعه للناس, وقد استطاع ان يوفر لنفسه كل ماكان يحتاجه لرعاية عبقريته.
أما العبقرية في البحث العلمي فشيء آخر... تحتاج إلي أساتذة مباشرين يرشدون الباحث ويوجهونه إلي الطريق الصحيح ويعطونه خلاصة تجاربهم.. وتحتاج إلي مراجع حديثة...ومعامل مكلفة وتمويل.. وتحتاج قبل كل ذلك إلي مناخ علمي.. ولا أعرف لماذا نتحدث كثيرا جدا عن مناخ الاستثمار ولانتحدث أبدا عن مناخ البحث العلمي وتعمل الدولة الكثير جدا من أجل توفير مناخ الاستثمار وتحقق في ذلك نجاحا ملحوظا ومطردا, ولاتعمل بنفس القوة والحماس لتوفير مناخ البحث العلمي ولا أعرف أيضا لماذا تقبلت الدولة مبدأ التغيير في المجال السياسي والتنفيذي, ولم تتقبل فكرة التغيير في مجالات البحث العلمي, ولماذا تبذل جهدها في إصلاح الاختلال الهيكلي للشركات ولاتقوم بعمل الإصلاح الاختلال الهيكلي في البحث العلمي, مع ان هناك ابحاثا وتصورات وسياسات, وكلام كثيرا عن إعادة تنظيم شاملة لكل مراكز البحث العلمي في مصر.. لتجميع المراكز المتشابهة بدلا من التعدد وتشتت الجهود وتجزئة التمويل وتكرار الأجهزة والمراجع والبحوث... ولإعادة تنظيم ادارة البحث العلمي في مصر علي أسس جديدة وبقيادات غير نمطية وغير تقليدية ولاتدير البحث العلمي بعقلية الموظفين... ولربط البحث العلمي بالصناعات القائمة لتطويرها وبالإنتاج عموما في كل مجال, ولإيجاد نوع من التنسيق بين العلماء المشتغلين بمجال واحد في أماكن متفرقة وكل منهم في واد لايعلم شئيا عما يفعله زملاؤه.
وأهم من كل ذلك كيف نوفر للشباب من أصحاب المواهب والطموح الفرصة للنمو الحقيقي في مراكز متفوقة عددها محدود وإمكاناتها كاملة, وكيف نجعل ثقافة المجتمع المصرية ثقافة علمية, تهتم بتطوير العلوم, وتتابع الجديد في البحث العلمي, وتشجع علي الابتكار العلمي, وكيف نحدد أهدافا لكل مركز من مراكز البحث, ثم كيف نقتلع جذور الإحباط من نفوس الباحثين ونزرع فيهم الثقة والتفاؤل, وكيف نجعل رؤساءهم يشجعون الباحثين المتميزين ولايقتلون فيلهم بذرة التفوق منذ البداية, وكيف نجعل زملاء الباحث العلمي أعوانا له يقدمون له المساعدة, ولاتدفعهم الغيرة المهنية التي تشعل الرغبة في الهدم في أصحاب النفوس الصغيرة منهم للتقليل من شأن كل إنجاز... وهل نسينا أن أحد شياطين البحث العلمي من قتلة العلم والعلماء جاهر يوما بالهجوم علي أحمد زويل نفسه وسعي إلي التشكيك في مقدرته ومكانته وأهمية الثورة العلمية التي حققها للبشرية..؟
ألا يستحق كل ذلك ان نفكر ونبدأ العمل لكي يكون المجتمع المصري أرضا صالحة لظهور أمثال أحمد زويل دون ان يضطروا إلي الهجرة.؟