من حقنا أن نشعر بالسعادة لفوز العالم المصري الأصل الدكتور أحمد زويل بجائزة نوبل.. ومن واجبنا أن نقدم له ما يستحقه من التكريم تقديرا لانجازه العلمي الكبير الذي كتب به صفحة مشرقة في تاريخ التقدم العلمي للبشرية.. ولنا أن نعبر له عن تقديرنا لوفائه لوطنه الذي جعله يذكر اسم مصر في أول تصريح له ويرد اليها الفضل في نشأته وتكوينه..ونأمل ألا يقتصر الاحتفال بهذه المناسبة النادرة علي التكريم والتعبير عن الفرح القومي, ويمتد الي ما هو أكبر وأبقي, وهو: كيف نجعل هذا الفوز الكبير نقطة انطلاق لنهضة علمية حقيقية في داخل مصر, وفي معاهدها وجامعاتها, وعلي أيدي أبنائها, لتكون نوبل القادمة لعالم مصري أجري أبحاثه وحقق انتصاراته داخل مصر ومع مساعدين مصريين..
ولقد لفت نظري سؤال طرحته إحدي الصحف هو: هل يمكن أن يظهر في مصر أحمد زويل في وجود المناخ العلمي القائم, والمؤسسات والمعامل ومراكز البحث والتشريعات, ونظم العمل, والمكتبات الحالية..؟ وكانت اجابة الباحثين والمسئولين عن المراكز العلمية بأن هذا مستحيل في ظل الأوضاع الحالية, وانه لو لم يكن أحمد زويل في أمريكا لما استطاع أن يفكر فيما فكر فيه, ولا استطاع أن يحقق شيئا مما أنجزه, لان المسألة ليست فقط الموهبة, أو العبقرية الفردية, أو النبوغ المبكر أو المتأخر, ولكن لابد معها من ظروف محيطة بالعبقرية تساعدها علي النمو والابداع, وهذا ليس متوافرا عندنا حتي الآن, ومن الأفضل الاعتراف بذلك وعدم المكابرة والانكار, لان هذا الاعتراف هو نقطة البداية التي لايمكن تغيير الأوضاع الحالية إلا من عندها, فاذا انكرناها فسوف نبقي كما نحن.. نتحدث عن مشروعات التقدم العلمي واستعادة أمجاد الماضي من العصر الفرعوني, حيث قدمت مصر للانسانية كل العلوم والاختراعات الي العصر الاسلامي حيث ساهم العرب ـ ومنهم المصريون ـ في نهضة علمية كبري كانت الركيزة التي قامت عليها النهضة الأوروبية وبدأت منها أوروبا خروجها من العصور المظلمة الي عصر التقدم المذهل الذي تعيش فيه الآن.
وان يكون الحديث عن أمجاد الأجداد حديثا للترضية وجبر الخواطر أو لتحريك دوافع التقدم والحماس للعمل, إلا أن حقائق الحاضر هي الأولي بالوقوف عندها, ولتكن هذه هي لحظة المصارحة والحقيقة, دون مجاملة, أو تزييف, أو خداع للنفس..
وان كان لوزير البحث العلمي الدكتور مفيد شهاب رأي آخر أبداه في ذلك التحقيق الصحفي وقال فيه ان الجامعات ومراكز البحث المصرية زاخرة بالعلماء والأجهزة والمعامل وقادرة علي انجاب أمثال أحمد زويل.. ولم لا..؟ إلا أن هذه النظرة غير الواقعية قد تجاوزت حدود التفاؤل والتشجيع الي حدود خطيرة علي منهج التقييم وعلي المقدرة علي رؤية الواقع بحجمه الحقيقي, بعد أن غرقنا في بحار التفاؤل والأوهام.. ويكفي أن نتأمل كلمات قليلة قالها الدكتور أحمد زويل نفسه عقب فوزه بالجائزة حين سئل نفس السؤال فأجاب بأن التقدم العلمي مرتبط بوجود مجتمع علمي, ولكي يفسر هذه العبارة الجامعة المانعة قال ان المجتمع الذي يفرز العلماء ويشجع علي الابداع هو المجتمع الذي يفكر تفكيرا علميا, ويتبع المنهج العلمي في كل أوجه حياته, ويسلك أفراده بناء علي ثقة وايمان بالعلم.. هذا هو المجتمع الذي تجد فيه مؤسسات البحث العلمي الفرصة للازدهار والتقدم, ويجد فيه أصحاب المواهب والمبدعون فرصتهم كاملة للابداع, ويجد الابداع ذاته فرصة للظهور, كما يجد مساندة من كل مواطن وكل مسئول وكل مؤسسة.
فالقضية في النهضة العلمية ليست تمنيات وأحلاما وأحاديث بل وليست قضية جامعات ومعاهد ومعامل, ولكنها قضية مجتمع.. هناك مجتمع هو في حقيقته بيئة صالحة لتفريغ العلماء وانطلاق الابداع.. وهناك مجتمع يمثل بيئة معادية أو رافضة أو علي الأقل معارضة أو مقاومة للعلم, ومشجعة لما سواه, وهذه البيئة لابد أن تكون بطبيعتها قاتلة للابداع, وقادرة علي قمع واجهاض النبوغ..
لو أدركنا هذه الحقيقة البسيطة فسوف نبدأ البداية الصحيحة علي الطريق الصحيح.. لابد من اعادة هندسة المجتمع أو اعادة بنائه علي أساس جديد. نقتلع الخرافة ونزرع العلم.. نقتلع النزعة المرضية المسيطرة علينا لتمجيد الماضي والحنين الي استعادة كل ما انتهي عصره ونزرع الطموح الي التقدم والنظر الي الأمام والتفكير في المستقبل علي أنه دائما أجمل وأكمل من كل ما كان في الماضي... نشجع كل موهبة صغيرة أو كبيرة ونوفر لها جو التقدم ونشجعها علي الابداع, نعيد النظر في المعامل والمكتبات في المدارس والجامعات ولا نكتفي بما تحقق فيها من تقدم ونغير دور المكتبة والكتاب والكمبيوتر في حياة الطفل والشاب, نقدم العلم والعلماء في كل وجبة في مناهج الدراسة, وفي برامج التليفزيون, والاذاعة, وعلي صفحات الصحف, ومع الصفحات الكثيرة التي تمتليء بأخبار زواج وطلاق وعلاقات الممثلين والراقصات تخصص صفحات لشرح الجديد في المعامل والمراجع والمجلات العلمية الكبري, ونقدم النظريات العلمية الحديثة بأسلوب بسيط, لتكون الثقافة العلمية هي الثقافة السائدة في المجتمع, علي الأقل لتتساوي مع اهتماماتنا بالثقافة الكروية والغنائية.. وليكون العلماء ضمن نجوم المجتمع مع نجوم الكرة والرقص.. وليكون لمن أحرز نصرا علميا جديدا مكان في اهتمامنا يتساوي مع اهتمامنا بمن يحرز هدفا في مباراة كأس افريقيا..! ونعيد علم العلم مناسبة قومية تقف فيها مصر كلها ورجالاتها تكريما للنوابغ من علمائها الصغار والكبار ولكل من أظهر تفوقا في العلم, وتقف الدولة كلها وراء مؤسسات العلم ورجاله.. بالرعاية.. والاهتمام.. والمتابعة.. وازالة المعوقات.. وما أكثر المعوقات.
ما أكثر المعوقات في ميادين البحث العلمي, وحتي الآن لم ينعقد مؤتمر برئاسة الرئيس مبارك للاصلاح العلمي علي غرار مؤتمر الاصلاح الاقتصادي الذي بدأ به الرئيس ولايته الأولي, ومؤتمر الاصلاح الاجتماعي الذي سيبدأ به الرئيس ولايته الحالية, وليكن مؤتمر الاصلاح العلمي هو بداية دخول مصر الألفية الثالثة بما يليق بها ويليق بالقرن القادم, وعندما يجتمع العلماء في مؤتمر واحد, ويتحدثون مع الرئيس بحرية فسوف تبلور أفكار جديدة ورائعة, وسوف يذوب الجليد, وتقام الجسور المقطوعة بين العلماء والدولة, وتعود وسائل الاتصال للعمل بين مراكز البحث مراكز اتخاذ القرار.لماذا نتوقف أمام أحمد زويل وحده وهو يعيش في أمريكا ولا يفكر في عشرات من أمثاله يعيشون بيننا.؟ان اكتشاف زويل ليس مجرد اكتشاف علمي لتفاعلات كيميائية داخل الخلية علي مستوي الذرة, ولا هو مجرد اختراع كاميرا بالليزر فائقة السرعة بلغت سرعتها حدا لم يعرفه الانسان من قبل.. إن نظريات زويل التي حصل بها علي جائزة نوبل سوف يترتب عليها ثورة في انتاج أسلحة فائقة السرعة والقوة, واكتشافات خفية لأمراض مستعصية وعلاجات لها, وستكون بداية لبحوث علي مسارات جديدة لاطالة عمر الخلية, وبالتالي اطالة عمر الانسان, والاعمار بيد الله وارادته, وهذه ارادته, أن يصل ابن دمنهور الفقير الي قمة الهرم العلمي في دولة تتربع علي قمة العالم..
ومادامت التربة المصرية قد أنجبت أحمد زويل فهي اذن تربة صالحة لإنبات العبقرية التي تسهم في التقدم العلمي الانساني وليس متصورا ان التربة التي أنجبت احمد زويل غير مهيأة لانجاب غيره.. لابد ان هناك عشرات ولدوا معه وعشرات ولدوا بعده لا يقلون عنه نبوغا.. وعلينا ان نبحث لماذا لم يتألق نبوغهم.. هل لأنه هاجر الي مجتمع علمي يساعد العلماء ولم يسافروا هم.. أو لأن البيروقراطية المصرية العريقة قتلتهم وحولتهم إلي موظفين غايتهم اكل العيش., أو انهم موجودون وينتظرون الفرصة والمناخ المناسب وهذا ما اعتقده أنا شخصيا..؟!