أولويات الإصلاح الإجتماعى

عرفنا منذ زمن طويل حزب اعداء النجاح‏,‏ وازدادت قاعدة هذا الحزب حتي اصبح أكبر الاحزاب وأكثرها نشاطا‏,‏ وبلغت قوته حدا جعلت كل ناجح يشعر بالندم علي ما بذله من جهد وما حققه من نجاح‏,‏ ويتمني لو عاد الي صفوف المغمورين لينعم بالهدوء‏,‏ ويحمي نفسه من السهام المسمومة التي تصوب اليه من كل اتجاه‏...‏ ثم ظهر بعد ذلك حزب جديد لا يقل قوة وفاعلية عن حزب اعداء‏...‏ هو حزب اعداء الطموح‏.‏
والمفروض ان كان المناخ صحيا في المجتمع ان يسعي كل فرد الي تحقيق احلامه في الثروة بشرط ان تكون من حلال‏..‏ وفي النجاح بشرط ان يصل اليه بالجهد وليس بالانتهازية وفي الترقي والتقدم بشرط ان يكون ذلك عن جدارة وليس بالنفاق أو الوساطة أو المحسوبية‏..‏ وتختلف طموحات الناس بحسب قدراتهم وتطلعهم الي تحسين اوضاعهم‏..‏ وهذه الطموحات مطلوبة‏..‏ والمجتمع السوي هو الذي يشجع الطموح في الشباب في وقت مبكر ويتيح الفرص لاصحاب القدرات الحقيقية من المتطلعين الي مواقع اعلي يستطيعون من خلالها العطاء وخدمة المجتمع‏..‏ اما اذا كان المجتمع قد اصابه الخلل فإنه يسمح باعطاء الفرصة لحزب اعداء الطموح لقتل كل موهبة في مهدها وابعاد كل من يبشر بمقدرة علي التقدم الي الصفوف الاولي‏,‏ وتكون النتيجة ان يعمل من يحتلون المواقع وفقا لقاعدة‏.‏ انا وبعدي الطوفان‏,‏ ويمارس كل ما لديه من قوة ليبدو في الصورة وحده‏,‏ وكأن الله لم يخلق غيره يصلح لهذا الموقع‏,‏ وكأن مستقبل العمل رهن بوجوه وبمجرد اختفائه سوف ينهار كل شئ ولن يستطيع ان يملأ الفراغ بعده احد‏.‏ ولذلك بدأنا نسمع عبارة اذا ذهب فلان فليس هناك من يصلح بعده وكأن المجتمع المصري اصبح عقيما‏.‏
هذه الروح نلمسها في كل مكان وفي كل مستوي ابتداء من موقع رئيس قسم في مصلحة أو رئيس شركة الي وكيل وزارة او رئيس هيئة أو وزير‏..‏ وبهذه الروح يتم بنجاح كبير شن حملات مدبرة ومخططة علي كل من لديه الطموح والمقدرة علي تولي مواقع اكبر‏,‏ وليس الدافع كراهية النجاح والناجحين فقط ولكن يضاف اليه الدافع الي محاربة اصحاب الطموح بتشويه مقاصدهم وتحويل طموحهم الي مادة للسخرية بدلا من ان يكون موضع اعتبار وتقدير‏..‏ ولقد بدأت الحملة علي اصحاب الطموح بنكتة ضحك لها الناس عن المشتاق الذي يكاد يتحرق شوقا الي منصب الوزير وليست لديه مواصفات الوزير‏,‏ ومع تكرار النكتة ترسخت في العقول فكرة السخرية من الطموح واصحابه‏,‏ والخلط المقصود بين الطموح المشروع والمطلوب الذي يجب تشجيعه‏,‏ والانتهازية المرفوضة المكروهة التي يجب محاربتها‏,‏ واصبحت هذه التهمة جاهزة تطارد كل من يفكر او يسعي الي الخدمة العامة‏,‏ وتحقيق احلامه في تجنيد مواهبه وقدراته للمصلحة العامة‏.‏ ونجح الذين كانوا يهدفون الي اصداء اصحاب الطموح المشروع ودفعهم الي انكار طموح واختيار البقاء في الظل بعيدا عن الاضواء‏,‏ بل ورفضهم للمناصب لكيلا تلصق بهم التهمة بأنهم من المشتاقين‏..‏ الي حد ان الرئيس مبارك صرح في الايام الاخيرة بانه يجد صعوبة في اقناع بعض الشخصيات الصالحة للوزارة بقبول المنصب‏..‏ وبذلك فإن الغاية لحزب اعداء الطموح قد تحققت‏,‏ وهي اخلاء الساحة تقريبا من اصحاب القدات والخبرة وازدياد اعداد الذين لا يتمتعون بالطموح وروح التفوق‏..‏ او اصحاب القدرات العادية والمغمورين‏..‏ وذوي الشخصيات الباهتة الذين يفتقدون الرؤية السياسية ولم يؤهلوا انفسهم لمسئولية ولم يفكروا فيها‏..‏
اذكر ان الدكتور فؤاد محيي الدين رحمه الله وهو من احسن ممن تولوا منصب رئيس الوزراء‏.‏ قال انه منذ كان طالبا في كلية الطب كان يقول لزملائه انني سأصبح يوما رئيسا لوزراء مصر‏..‏ هل كان الدكتور فؤاد محيي الدين مشتاقا من المشتاقين الذين تنطبق عليهم سخرية الكاريكاتير ام كان من اصحاب الطموح والموهبة‏,‏ وكان علي وعي في وقت مبكر ان لديه طاقات وقدرات تؤهله لقيادة العمل العام في موقع رفيع‏,‏ وهذا ما دفعه الي المشاركة في الحياة السياسية حتي ظهر ولمع وتفوق وحصل علي ما يريد عن استحقاق وجدارة‏..‏ هل كان مشتاقا ام كان صاحب طموح مدركا انه يستطيع ان يخدم بلده من هذا الموقع الرفيع‏..‏ وإذا لم يكن وصل الي تحقيق حلمه‏.‏ المشروع فمن كان يمكن ان يصل اليه‏..‏؟
اقول ذلك لأنه اصبح ملموسا ان كل صاحب طموح اصبح يخفي طموحه‏,‏ وكأن الطموح تهمة أو جريمة‏..‏ وكل صاحب موهبة اصبح ينكر موهبته وكأن الموهبة عيب وحتي لا يضع نفسه في موضع الاتهام‏..‏ وكل من يجد نفسه قد اصبح تحت الاضواء يسارع بالابتعاد عنها خشية ان يطارده الاتهام وتلسعه ألسنة السخرية وتشوه صورته‏..‏ وبذلك نخسر كثيرا من الثروة البشرية النادرة التي تحرص عليها الدول لمجرد ان جعلنا نكتة تتحول الي قاعدة مستقرة للحكم علي الناس‏.‏
واعتقد ان الامر يحتاج الي ان يؤخذ بجدية اكثر من ذلك قبل ان تندثرأو تضيع من ايدينا عقول وقدرات يحتاجها العمل العام في كل وقت‏,‏ ولابد ان نزيد من الفرص امام اصحاب الطموح كما تفعل كل المجتمعات التي تؤمن بالتجدد والتقدم‏,‏ وفوقف هذه الحرب الخبيثة علي اصحاب الطموح وعلي الناجحين‏.‏
ولن يكون ذلك إلا بأن نفرق أولا بين دور الكايكارتير في السخرية والاضحاك ودور العمل العام الجاد والهادف‏..‏ ونفرق ايضا بين المشتاق الي منصب وهو غير صالح وغير مؤهل له و المشتاق الي المنصب وهو اهل له‏,‏ وتتوافر فيه الصفات الاخلاقية والكفاءة والخبرة التي وتجعله مستحقا له عن جدارة‏,‏ ولابد ان نؤمن بأن الاشتياق في ذاته ليس جريمة‏..‏ وليس خطأ‏..‏ وليس عيبا‏..‏ ولكن معيار التفرقة هو الكفاءة والصلاحية والنزاهة والتكوين‏.‏ وفرق بين الطموح المشروع والطموح غير المشروع‏..‏ وبالتالي هناك فرق بين المشتاق الذي يسعي الي هدفه بالتسلق والنفاق والادعاء والانتهازية والمشتاق الذي لايسلك طريقا لتحقيق حلمه إلا بالعمل والخبرة والجدية‏..‏ وان لم نفعل ذلك فإننا نصادر احلام اجيال ونحرمها من حقها في بلدها‏.‏
وقد سألت فضيلة الامام الاكبر شيخ الازهر هل هناك قاعدة فقهية تقول ان طالب الولاية لا يولي فأجابني بأن هذه ليست قاعدة فقهية وليست حديثا صحيحا‏,‏ وهي مجرد عبارة شائعة لا أكثر وتتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم‏,‏ فقد طلب سيدنا يوسف لنفسه الولاية‏,‏ وقال لفرعون‏:‏ اجعلني علي خزائن الارض اني حفيظ عليم‏..‏ وقد طلب المنصب لا لكي يأخذ من الخزائن لنفسه‏,‏ ولكن لكي يحمي مصر من خطر وهو مدرك انه قادر علي ذلك وان الصفات المطلوبة للمنصب تتوافر فيه‏.‏
وبعد ذلك لابأس من ان يكون المشتاق موضع سخرية ان كان بلا موهبة ولا جدارة علي ان يبقي مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب هو المبدأ الحاكم لكيلانقتل الطموح‏,‏ والامل في اجيال تتفتح للحياة ومستعدة للعطاء لأن فقدان الامل اخطر من فقدان أي شئ آخر‏..‏ ويكفي ما احرزه حزب اعداء النجاح من انتصارات ومازالت امامنا الفرصة للتصدي لحزب اعداء الطموح‏.‏
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف