أولويات الإصلاح الإجتماعى

منذ سنوات وجه الرئيس مبارك نداء إلي المثقفين للقيام بدورهم في قيادة الحياة الفكرية والاجتماعية‏,‏ وكان ذلك ـ فيما أذكر ـ في مناسبة الاحتفال بتسليم جوائز الدولة‏,‏ ويومها طرح الرئيس تصوره لدور الفكر والمفكرين في المجتمع‏,‏ ونبه إلي أهمية حماية المجتمع من الأفكار والقيم السلبية التي يمكن أن تعود به إلي الوراء‏,‏ بينما العالم يسير إلي الامام بخطي سريعة‏..‏

وأذكر ان الرئيس مبارك يومها وضع امام المثقفين الإطار العام لتفكيره في هذا الاتجاه وطالب ببدء نهضة فكرية وثقافية واجتماعية‏.‏ وحدد نقطة البداية لتغيير المجتمع بتغيير المفاهيم والافكار السائدة من مخلفات عصور التخلف‏,‏ كما أن القيم الاجتماعية والسلوكية التي سادت في المجتمع المصري أصبحت في حاجة إلي مراجعة‏,‏ ولابد من أن تعمل الطليعة من المثقفين وقيادات المجتمع علي الدعوة إلي قيم جديدة‏,‏ لاعلاء الانتماء‏,‏ والاتقان‏,‏ وروح الجماعة والتعاون‏,‏ والاستعداد الفردي للتضحية من أجل المجموع‏,‏ وركز يومها علي قيم الاخلاص في العمل‏,‏ واحترام الواجب‏,‏ والجدية‏,‏ وطهارة اليد‏,‏ وعدم التهاون في تنفيذ القانون‏.‏

وفي هذا السياق كان تصور الرئيس مبارك أن الصفوة المثقفة هي المؤهلة للقيادة وعلي المجتمع أن يفتح امامهم الطرق للابداع بغير قيود أو معوقات‏,‏ علي أن يكون الفن والفكر سلاحا لتطوير الحياة والارتقاء بالمجتمع‏,‏ وكانت هذه إشارة إلي أهمية الوقوف في وجه ما يقدم علي أنه فن أو ثقافة وهو في حقيقته هدم للقيم وافساد للذوق العام‏..‏ كانت هذه اشارة لايقاف تيار السطحية في الفنون والفكر‏..‏ ولكن هذه الدعوة التي وجهها الرئيس لم يقف عندها المثقفون وقفة تليق بها‏,‏ ولم يتقدموا لتحمل مسئوليتهم‏,‏ وظل أكثرهم في ممارسة العمل السهل‏,‏ وهو توجيه النقد إلي كل شيء وإلي كل شخص بدلا من السعي إلي بناء فكر جديد‏,‏ وثقافة جديدة‏,‏ وفن جديد‏,‏ وقيم اجتماعية جديدة‏,‏ وكانت النتيجة أن انتشرت ثقافة الخرافة والشعوذة‏,‏ وتفسيرات الدين الغريبة والمريبة‏,‏ واحياء اتجاهات كانت تسعي إلي هدم الاسلام من الداخل باسم الإسلام‏,‏ وبعث الافتراءات التي كان يدسها اعداء الإسلام في ثنايا بعض كتب التفسير أو الحديث أو الفقه‏,‏ وكانت النتيجة أيضا أن أصبح نجوم المجتمع هم مطربي الاغاني الساقطة‏,‏ والممثلين الهزليين‏,‏ والاراجوزات في الفن والحياة العامة‏,‏ والسماسرة‏,‏ وكان المفروض ان يكون نجوم المجتمع هم العلماء والمخترعون والمفكرون والفقهاء‏,‏ وأصبح الحصول علي المال هو الهدف الأول دون اعتبار لأن يكون هذا المال من حلال أو حرام‏,‏ وهذه بعض نتائج عدم الاستجابة للنداء الذي وجهه مبارك منذ سنوات وكان بمثابة جرس انذار‏.‏

ومنذ سنوات أيضا اجري بحث بين الشباب للتعرف علي ترتيب القيم السائدة بينهم‏,‏ فظهر ان المال هو القيمة الأولي وأن العمل و والاجتهاد و الاتقان هي القيم التي تأتي في آخر القيم الاجتماعية‏,‏ وكان هذا البحث كفيلا بأن يكون جرس انذار آخر ينبه إلي أن قيم الانتهازية والانانية سوف تسود‏,‏ وأن كل عمل يؤدي إلي الثروة سوف يصبح مشروعا في عقولهم بصرف النظر عن اتفاقه أو تعارضه مع الاخلاق أو القانون‏..‏ وأن هناك شريحة من الشباب سوف تكبر وتعمل علي ان تتقدم الصفوف دون اعتبار للقدرة أو الصلاحية أو بذل الجهد‏..‏ وأن هذه الشريحة سوف تسعي إلي الغاية بأي وسيلة‏..‏ وكان المفروض أن تتحرك كل الأجهزة المسئولة عن التربية والثقافة والاعلام لبحث هذه الحقائق المقلقة واعداد خطة وبدء عمل جاد لحماية الشباب في كل قطاعات وإعادة القيم السليمة إلي مكانها الطبيعي‏,‏ ولكن ذلك لم يحدث‏,‏ وبدلا من ذلك ظللنا نكرر الحديث عن أهمية بناء الانسان وانجازات رعاية الشباب‏,‏ ثم اختزلنا ذلك كله في اعداد فريق لكرة القدم جعلناه مسئولا عن رفع اسم مصر بين الأمم وتحقيق النصر لها في معارك غير حقيقية‏.‏

ونتيجة لذلك كله سادت قيم نشكو منها الآن‏,‏ وانتشرت سلبيات أصبح علاجها يحتاج إلي جهد أكبر‏..‏ وتطورت القيم السلبية إلي أن تبلورت فيما نسميه البلطجة التي تحولت من ظاهرة محدودة بين محترفي الاجرام‏,‏ وأصبحت أسلوب حياة‏,‏ وسلوكا شائعا في مستويات عليا ودنيا‏,‏ وظهرت بلطجة في القول‏,‏ وبلطجة في المعاملات‏,‏ تتجلي في الاستهانة باقدار ومقامات الآخرين‏,‏ والتباهي بالقدرة علي التبجح والتهجم علي كل من يعارض أو يعترض بالفاظ سوقية واعتبار ذلك مظهرا من مظاهر القوة‏,‏ وأصبحت ممارسات القوة من الأمور الشائعة ابتداء من قيادة السيارات في الشوارع‏,‏ إلي العلاقات في البيت‏..‏ ومن تمرد الابناء علي آبائهم والخروج علي طاعتهم إلي التهجم عليهم والاعتداء بالضرب أو القتل أحيانا‏..‏

وتحت شعار التسامح وفضيلة الصبر أصبحت هذه القيم الاجتماعية والاخلاقية الفاسدة تقابل بعدم اكتراث بل وتبلد واستسلام‏,‏ حتي أصبح السلوك الخطأ يحدث علنا أمام الجميع دون أن يسبب انزعاجا لأحد‏..‏ وطبيعي أن تتفخم الظاهرة وتتسع وتتحول من مجرد خطأ لتصبح انحرافا ثم تظهر في شكل جريمة‏.‏

ويبدو أن هذا الموضوع كله بعيد عن الاهتمام‏,‏ أو لم يأخذ حقه ضمن اولويات العمل‏,‏ ربما لأن الاصلاح الاقتصادي كان يفرض نفسه لخطورة التأخير فيه‏,‏ وربما لكثرة المعارك الخارجية‏,‏ وربما لحالة خداع النفس التي نحب ان نمارسها بأن نردد أن كل شيء يسير علي أحسن ما يكون وليس هناك مجال للمزيد‏,‏ وهذا إما أن يؤدي إلي ازدواج الشخصية الثقافية والاجتماعية فيقول الناس في العلن غير ما يقولونه في احاديثهم الخاصة‏,‏ وإما أن يؤدي إلي نوع من السلبية الثقافية والاجتماعية نتيجة الشعور بأن اليد الواحدة لاتصفق‏,‏ وأن السير مع التيار أو الصمت أفضل‏..‏

وأعتقد أن أمامنا فرصة ربما تكون هي الفرصة الأخيرة‏,‏ فقد دعا الرئيس مبارك إلي عقد مؤتمر للاصلاح الاجتماعي مع بداية العام القادم‏,‏ لكي يطرح فيه المشتغلون بالعمل الاجتماعي والخبراء وعلماء النفس والاجتماع‏,‏ تصوراتهم عن حالة المجتمع المصري الآن وما طرأ عليه من تحولات وتغيرات شملت الأفكار والقيم الاجتماعية والاخلاقية والدينية والسلوك والذوق العام‏,‏ ويضعوا خطة متكاملة تحدد فيها الأهداف والأدوار‏..‏

أعتقد أن هذا المؤتمر هو الفرصة الأخيرة‏,‏ إما أن نأخذه بالجدية الواجبة ويدور فيه الحوار بالصراحة والموضوعية ولا يراعي إلا الالتزام بالمنهج العلمي في البحث والتفكير لكي يشخص أمراض المجتمع تشخيصا صحيحا‏..‏ وإما أن نجعله منبرا لالقاء الخطب عن الانجازات والايجابيات ونتجاهل السلبيات لكي نخرج منه ونحن أكثر شعورا بالرضي عن النفس‏,‏ وتستسلم الأجهزة والمؤسسات المسئولة عن العمل الاجتماعي ورعاية الشباب لما هي فيه‏..‏ وأعتقد أن كل من يسكت عن كلمة الحق في هذا المؤتمر سيكون أخطر من أي شيطان أخرس


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف