رعاية الموهوبين مشروع حضارى جديد
من الواضح أن مصر تتهيأ الآن لدخول مرحلة جديدة. وقد حدد الرئيس مبارك ـفي حديثه الأخير إلي الشبابـ اتجاه تفكيره وإعداده لهذه المرحلة التي ستبدأ مع الولاية الجديدة.. حين أعلن أنه يخطط ويعمل لتحقيق نهضة مستمرة وشاملة لكل مجالات الحياة في مصر.. نهضة لا تستند إلي الجهد الحكومي وحده, ولكنها تقوم علي مؤسسات الدولة والمجتمع من الأحزاب والنقابات والاتحادات والجمعيات الأهلية. ولأن هذا العمل الكبير يحتاج إلي كل جهد من جميع المواطنين دون استثناء, فقد دعا كل المصريين إلي المشاركة فيه بالجهد والرأي, لأن اليد الواحدة لا تستطيع أن تصفق, ولأن نهضة الأمة تتطلب من الجميع اليقظة والمشاركة وأن ينهض كل مواطن بمسئولياته.
ولاشك في أن الرئيس مبارك يضع الشباب في بؤرة اهتمامه, ولذلك حرص, وهو يعلن عن بداية مشروعه القومي الكبير, علي أن يقف وقفة خاصة عند مشروع جديد لتنمية ثروة مصر من العلماء والمخترعين والنابغين في كل الميادين: في الفكر والعلوم والفنون, وتكليف الجهات المسئولة عن الشباب منذ سنواته المبكرة بالبحث عن الموهوبين في كل موقع, والاهتمام بهم اهتماما خاصا, ومتابعة تنمية مواهبهم.. وليس ذلك من منطلق تقدير التفوق فقط, ولكنه إدراك حضاري لأهمية وجود هؤلاء المتفوقين والموهوبين في عالم لا تتفوق فيه الدول إلا بمقدار نجاحها في استثمار ثرواتها من البشر المتميزين من المبتكرين والموهوبين ورجال البحث العلمي والمتخصصين في تطبيقات العلوم. والدول الكبري لا تكتفي بالموهوبين من أبنائها, ولكنها تبحث عن الموهوبين من أبناء الدول الأخري, وتقدم لهم من الإغراءات ما يجعلهم يتركون بلادهم ليهاجروا إليها ويسهموا في نهضتها. ويكفي أن نتابع حرص الولايات المتحدة علي جذب النابغين والموهوبين والمبتكرين من جميع أنحاء العالم من الصين إلي استراليا إلي أوروبا وإفريقيا. وفي النهاية فإن عقول هؤلاء جميعا تشارك في تفوق الولايات المتحدة وإنجازاتها العلمية الخارقة وتسهم في تفوقها في التكنولوجيا وفي الفنون وفي الاقتصاد والإدارة.. إلخ.
والموهبة منحة من الله سبحانه وتعالي.. ومن بين مئات الأطفال والشباب ليس سهلا العثور علي واحد أو اثنين ممن لديهم موهبة خاصة ومتميزة في الرياضيات أو الهندسة أو العلوم الطبيعية, أو موهبة في القيادة والإدارة, أو موهبة في الرسم أو التمثيل أو الموسيقي.. ليس سهلا أن نجد مئات أو عشرات من أمثال طه حسين أو نجيب محفوظ أو عبدالوهاب أو أم كلثوم أو زكي نجيب محمود أو مصطفي مشرفة أو مجدي يعقوب أو أحمد زويل.. ولا أقول من أمثال أينشتين أو بيل جيتس أو هوكنج.. أو غيرهم ممن أسهموا في صناعة النهضة العلمية والصناعية في العصر الحديث..
والموهبة موجودة في كل مجتمع, ومن حكمة الله أن توزيع هذه المواهب يتم بين شعوب العالم بالعدل الإلهي, فليس هناك شعب أكثر حظا من غيره في هذه الهبة الإلهية, ولكن هناك مجتمعا يكتشف المواهب في وقت مبكر ويهتم بها ويرعاها رعاية كاملة فتظهر وتزدهر وتعطي, ومجتمع آخر يهمل هذه المواهب فلا تظهر إلا بالمصادفة. وتصارع وحدها العقبات والمعوقات التي تواجهها دون سند أو معين فينهزم معظمها ويذوي ويضيع في زحام الحياة.. وكم من صاحب موهبة كان من الممكن أن يصبح مكتشفا أو مخترعا أو فنانا تحول إلي موظف صغير وأصبحت غاية طموحه الحصول علي درجة أو منحة..!
وقد بدأ وزير التربية والتعليم الدكتور حسين كامل بهاء الدين في تجميع المتفوقين في الثانوية العامة منذ عام1975 حتي عام1995, لدراسة ما وصلوا إليه خلال عشرين عاما, وليستمع إلي آرائهم في الأسلوب الأمثل لرعاية الموهوبين.. وليبدأ معهم إنشاء رابطة لرعاية المتفوقين.
وإذا كان هناك من يري أن التفوق في الثانوية العامة ليس مقياسا للتفوق, وأن عددا من المتفوقين في الثانوية العامة لم يتفوق بالدرجة نفسها في التعليم الجامعي, وبعضهم تعثر, وبعضهم ـطبعاـ استمر في تفوقه.. إلا أن لقاء الوزير مع هؤلاء المتفوقين كشف عن حقيقة أن النسبة الأكبر من المتفوقين في الثانوية العامة ظلوا متفوقين في دراستهم الجامعية, واستمر أكثرهم في التفوق بعد انتهاء الدراسة وممارسة العمل.. ومنهم أطباء ومحامون وباحثون في مراكز علمية ناجحون.. وتأكدت نظرية أن التفوق في الثانوية العامة يمكن أن يكون أحد المقاييس الجيدة بالإضافة إلي المقاييس الأخري لأن معناه أن الشاب درس14 عاما بجدية, وحصل علي الدرجات النهائية في الرياضيات واللغات وغيرها من المواد, وأثبت بذلك قدرته علي الاستيعاب والمثابرة, بالإضافة إلي نسبة ذكاء عالية وطموح وهما عنصران لابد من توافرهما للتفوق.
ولقد انتهي هذا اللقاء الذي ضم300 من المتفوقين بتأسيس رابطة للمتفوقين تتولي إنشاء قاعدة بيانات عنهم وتقديم الرعاية والمعاونة لهم لكي يستمروا في التفوق في دراساتهم الجامعية والماجستير والدكتوراه, واشتراك هؤلاء المتفوقين في مجالس أمناء المدارس التي يدرس فيها أبناؤهم, وإشراكهم أيضا في المؤتمرات القومية لتطوير التعليم, وتنفيذ مقترحاتهم لتطوير مراكز رعاية الموهوبين.. وبعضهم طالب بإعطائهم منحة دراسية للدراسات العليا, وبالاستمرار في المشروع الكبير بإدخال الكمبيوتر وتكنولوجيا التعليم وتطوير المعامل والمكتبات في المدارس, وبأن يكون في كل مدرسة ثانوية موجه تربوي يساعد الطلبة علي اختيار دراستهم وحل المشكلات العلمية التي تقابلهم في هذه الدراسة, كما يحدث في الدول المتقدمة, بالإضافة إلي زيادة الاهتمام بالإخصائي الاجتماعي والنفسي في الدراسة لكي يقدم للتلاميذ المساعدة علي بناء الشخصية الإيجابية وعلي التغلب علي مشكلات المراهقة, والمشكلات الأسرية والنفسية التي قد تكون هي السبب في قتل المواهب.
ولاشك في أن زيادة الاهتمام بالنشاط المدرسي ضرورة لإعطاء الفرص للتلاميذ لإظهار قدراتهم وتنميتها واكتساب الثقة بالنفس لاستمرار التفوق.
وإذا كانت المبادرة قد جاءت من وزارة التربية والتعليم, فإن بقية الوزارات يجب أن تشارك في رعاية المتفوقين من ناحية وتقدم إمكاناتها لاكتشاف ورعاية أصحاب المواهب الخاصة بكل ما لديها من إمكانات, وأعتقد أن هذا المشروع القومي يحتاج إلي وقفة من الدولة ومن المنظمات الشعبية, لأنه مشروع جوهري, وبداية لعمل كبير من أجل تحقيق التقدم وبناء المستقبل.