لماذا الأسكندرية
في هذا الصيف أصبحت الاسكندرية هي محور الاهتمام, بعد أن ظهرت نتائج ثورة الاصلاح التي بدأت فيها منذ ثلاث سنوات بهدوء.. وصبر.. وتخطيط.. ولم يكن أحد يتصور أن عروس الأبيض المتوسط يمكن أن تعود اليها الحياة بعد أن تدهورت أحوالها, وساءت مرافقها, وتحولت معظم احيائها الراقية الي ما يشبه القري والعشوائيات.. وهجرها محبوها الي القري السياحية..
في هذا الصيف ظهرت اسكندرية جديدة.. وليس من السهل تنفيذ مشروع كبير مثل تجديد مدينة متهالكة كانت آيلة للسقوط.. وليس سهلا استعادة زحام المصيفين الحالي ان بعد كانت قد اصبحت مصيفا شبه مهجور.
وحين سئل الرئيس مبارك: لماذا تحققت هذه الطفرة الهائلة في الاسكندرية ولم تتحقق بمثل هذه القوة في محافظات أخري, لخص المسألة في ثلاثة أسباب رئيسية: محافظ نشيط استطاع أن يحسن التعامل مع الناس ويجمعهم حوله لتحقيق هدف هو خدمة وتطوير مدينتهم.. ووجود فئة من أبناء المحافظة ساهموا باخلاص باموالهم وجهودهم للنهوض ببلدهم.. ومساعدة من الدولة في المشروعات الكبري التي تكلفت عشرات الملايين.
والحقيقة أن السبب الاول الذي اشار اليه الرئيس هو نقطة البداية وسر النجاح الكبير الذي تحقق, وهو وجود محافظ مدرك لطبيعة دور ومسئولية المحافظ.. وفهم وظيفة المحافظ علي أنها ليست وظيفة شرفية.. وليست منصبا من حق صاحبه أن يتمتع بالامتيازات ويحيط نفسه بهالة من الفخفخة ويغلق مكتبه أمام جموع الناس ويقصر تعاملاته مع عدد محدود من الوجهاء والكبار وأصحاب النفوذ. ولكنه فهم ان المحافظ قائد محلي. ينفذ سياسة الدولة ولا يستطيع ان ينفذها وحده هو ومجموعة الموظفين المحيطين به.. وادرك أن دوره الاساسي ليس أن يعمل وحده.. ولكن أن يحفز الناس علي أن يعملوا معه.. وليس سهلا استعادة ثقة أهل الاسكندرية في جدوي التطوع أو المشاركة بعد أن كانوا قد فقدوا الثقة فيها.. وليس سهلا اخراج الناس من حالة السلبية والفردية التي كانت سائدة الي حالة الايجابية والحماس للتضحية.. وبعد أن كان كل مسئول في المدينة مشغولا بما يعود عليه شخصيا من نفع أصبح مشغولا بمصالح الناس.
واعتقد أن ما حدث في الاسكندرية يصلح نموذجا للدراسة ليس من ناحية ما تحقق من انشاء ورصف الطرق أو تخفيف الزحام أو اصلاح المرافق أو تجميل المدينة واضافة حدائق وساحات للتنفس, أو اعادة النظافة التي كانت نسيا منسيا.. وكل ما تحقق في هذه المجالات أقرب الي المعجزات.. ولكن ما أراه يستحق الاهتمام هو دراسة هذه الحالة من الزاوية السياسية.. من زاوية قدرة القائد المحلي علي عمل الكثير اذا كان صالحا.. ومن زاوية جدوي المشاركة الشعبية واعتبارها هي الطريق الوحيد للنهوض بالمحليات وبمصر كلها.. ومن ناحية مقدرة السلطة ممثلة في المحافظ علي التعامل مع المجتمع دون تعال, أو انفصال, ومن ناحية مدي تأثير النموذج والقدوة والشفافية والثقة في نظافة يد من يطلب من الناس أن يضحوا ويقدموا.. الزاوية السياسية في الموضوع هي التي تهمني, لان المجتمع المصري لديه تاريخ طويل من الخصام مع السلطة عبر العصور.. ومنذ قرون والعلاقة بين المواطن والسلطة الحاكمة ليس قائمة علي التعاون والثقة المتبادلة ولكنها قائمة علي الحذر والتردد.. وهذه رواسب فترات كانت السلطة فيها هي سلطة الاحتلال الأجنبي, أو سلطة العثمانيين والمماليك, وهؤلاء زرعوا في الناس مشاعر عدائية تجاه السلطة بكل مستوياتها.. وهذه المشاعر هي التي أفرزت السلبية وعدم الولاء والانتماء, وعدم الاستعداد للعطاء, بعد أن تباعدت المسافة بين السلطة والمواطن.. وبعد ان ظلت السلطة تحتكر وحدها الحق في التفكير والتخطيط واتخاذ القرار والتنفيذ ولا تعطي للمواطنين الأجانب واحدا هو أن يدفعوا أموالهم.. وبذلك تحولت المسألة من المشاركة الي الاستغلال.. لان المشاركة الشعبية إما أن تكون كاملة.. تشمل الحق في المعرفة والحصول علي المعلومات الصحيحة.. والمشاركة في التفكير بحرية.. والمشاركة في اتخاذ القرار.. والمشاركة في التنفيذ.. والاشراف.. والرقابة وإما أن ينصرف الناس كل الي مصالحه الخاصة حتي وان تظاهروا بالاهتمام بالامور العامة..
والجديد الآن هو هذه الظاهرة التي تجسدت في الاسكندرية.. وهي تحول المجتمع الي الايجابية.. والانفتاح علي السلطة والاقتراب منها والثقة فيها.. وانتهاء عصر أحادية الفكر.. وتحول العلاقة بين السلطة أو الادارة وبين المواطنين من الصراع الي التعاون والعمل المشترك.. وبعد ذلك أصبح ممكنا أن يسهم المواطنون بأموالهم وجهدهم وفكرهم في تنفيذ المشروع الكبير.
وما حدث في الاسكندرية ويسميه الناس معجزة هو نتاج المثلث الذهبي: الناس أولا.. والدولة ثانيا.. والقيادة المحلية الواعية ثالثا.. وهذا المثلث لابد ان تكتمل اضلاعه في كل المحافظات كما اكتملت في الاسكندرية لحل المشاكل المتراكمة منذ عشرات السنين والتي لا تستطيع الدولة وحدها حلها حلا كاملا.. ولكي تتحقق المعجزة في كل المحافظات لابد أن يترك المحافظ موقع السلطة ويتخذ موقع القيادة المحلية المرتبطة بالناس.. ويترك الناس موقعهم التقليدي كمتفرجين ومنتظرين لما تفعله الدولة وناقدين لاوجه القصور..
هذه هي القضية التي يطرحها نموذج النجاح في الاسكندرية, وهي قضية سياسية في المقام الأول, وليست قضية مقاولات ومبان وطرقات.. فكل ما تحقق هو نتيجة لمقدمات صحيحة.. ويجب ان نقف عند المقدمات والاسباب الصحيحة لكي يكون هذا النموذج قابلا للتكرار.
ولابد ان يتكرر نموذج الاسكندرية في كل المحافظات, لان من حق المواطنين أن يجدوا ما وجده أهل الاسكندرية من قيادة محلية شعبية واعية واهتمام من وزارات الدولة ونموذج للسلوك النظيف والادارة النشيطة.. ومن حق المواطنين أن يجدوا من يثير فيهم الرغبة والقدرة علي المشاركة ويعيد اليهم الثقة في جدواها..
وقبل ذلك كله فقد سقطت حجة بعض المحافظين لتبرير عجزهم عن تطوير محافظاتهم بان السبب هو نقص الامكانات والاعتمادات.. فقد ثبت أن هناك اسبابا أخري للانجاز أكثر أهمية من الاموال هي التي تؤدي الي مضاعفة الأموال وعودة الروح الي المحافظات.