الشباب و التغيير الاجتماعى

في مؤتمر التنمية الاجتماعية المقبل أعتقد أن أهم موضوعين يجب أن يفتح حولهما حوار واسع هما‏:‏ الشباب والمثقفون في مصر‏.‏ فالشباب مازال حتي الآن ينتظر انشاء هيئة مسئولة عنه‏..‏ تبحث بجدية مشاكله وهمومه وتطلعاته واحلامه‏,‏ وتحدد بوضوح فلسفة العمل مع الشباب‏,‏ وتنفذ برنامجا جادا لاعداد الشباب للحياة في عصره‏,‏ والتفاعل مع مجتمعه ومع العالم‏,‏ وتضع تصورا للاستفادة من طاقة الشباب الضائعة والمهدرة‏..‏ وهذه الهيئة لم تظهر حتي الآن رغم كل ما قيل ومايقال من تصريحات وبيانات وتقارير وردية لاتعكس حقائق الواقع الذي يعيشه الشباب في البيت والمدرسة والشارع والقرية‏..‏

أما قضية المثقفين في مصر فقد تراكمت عليها طبقات من الضباب عن عمد‏,‏ لأخفاء القضية الاصلية لأن مواجهتها يحتاج الي مجهود كبير ولاظهار قضايا فرعية اسهل‏,‏ وتسطيح قضية الثقافة والمثقفين واختزالها في مجرد ارقام عن عدد الكتب والمجلات والنشرات والمتاحف‏..‏ أما القضية الحقيقية فهي غائبة عن الحوار‏,‏ والقضية هي أين موقع المثقفين من المجتمع المصري في القرن المقبل‏,‏ وما دورهم بالضبط في قيادة المجتمع‏,‏ وما هي القنوات والوسائل والآليات التي يمكنهم ان يمارسوا مسئولياتهم من خلالها‏.‏

وبالنسبة للشباب والمثقفين فنحن نقول لهم كل يوم أنتم أمل اليوم والغد‏,‏ وأنتم ثروة الوطن‏,‏ وأنتم الأمل في البناء والتنيور‏,‏ تقدموا‏,‏ وشاركوا‏,‏ وتخلصوا من السلبية والانتظار‏,‏ والبلد يحتاج الي كل واحد منكم‏..‏ نقول لهم ذلك دون أن نحدد لهم بالضبط ماذا يفعلون‏..‏ وما هو مطلوب منهم علي وجه التحديد‏..‏ واين‏..‏ وكيف يؤدون واجبهم ويحملون الشعلة‏..‏

ونتيجة لهذا الموقف اصبحت امامنا مشكلة جديدة صنعناها بأيدينا‏..‏ فالزيادة في شحن الشباب والمثقفين دون أن يكون امامهم مجالات عمل اصابهم بنوع من الارتباك ينعكس علي السلوك والفكر والاتجاهات‏..‏ تماما مثلما تقوم بعملية شحن معنوي ونفسي لمجموعة من الجنود حتي تمتليء صدورهم بالرغبة في القتال والتضحية ثم لايجدوا امامهم عدوا ولاميدان قتال‏..‏ كما تفتح شهية ضيوفك بالحديث ساعات عن اصناف الطعام وأهميتها وفؤائدها‏..‏ ثم لاتقدم لهم طعاما‏..‏

ومنذ سنوات نبه عالم الاجتماع الدكتور حسن الساعاتي الي أن مجتمعا يهمل الشباب في مرحلة حساسة من مراحل تطوره‏,‏ ويتركه يملأ فراغه اليومي بالقراءة او الاستماع الي ما هو غير مناسب‏,‏ او متابعة برامج أسيء اختيارها‏,‏ فان النتيجة المؤكدة لذلك هي تهيؤ الشباب للتأثر بالأفكار الضارة‏,‏ وفي الوقت الذي نبه د‏.‏ الساعاتي الي أن الأساليب الجديدة للاعلام تشحن الشباب للحياة في الحياة الرغدة المليئة باللذات التي لايستطيع الحصول عليها الا قلة‏,‏ بينما الأغلبية تعاني الحرمان من هذه الحياة‏,‏ فالاعلام‏,‏ والاعلان‏,‏ يخلقان حاجات جديدة‏,‏ ويلهبان الرغبات‏,‏ ومن الصعب اقناع المحرومين بأن يرضوا بالمقدر والمقسوم‏,‏ ومن الصعب ايضا أن تجدي محاولات غرس القناعة والرضا بالقليل‏,‏ ولابد أن نضع في اعتبارنا خطورة اثارة تطلعات الشباب الي السلع الاستهلاكية والترفيهية بأكثر من قدرتهم علي الحصول عليها‏,‏ لأن ذلك يمكن أن يؤدي الي ما يسميه علماء الاجتماع ثورة التطلعات ثم يؤدي الي ما يسمونه صدمة التطلعات وهذه قضية تحتاج الي مناقشة للوصول الي تصور لكيفية وقاية المجتمع منها‏,‏

أما الشباب فمشكلاته أكثر تعقيدا‏,‏ وأولها أن المجتمع توارث منذ قرون نظرة تري ضرورة تهميش الشباب في الأسرة بدعوي أنهم عاجزون عن فهم الحياة‏,‏ والكبار في الأسرة اليوم يهمشون الشباب لسبب آخر هو أنهم لايجدون الوقت الكافي للتقارب والتفاهم والتفاعل مع الابناء‏,‏ ونتيجة لذلك هناك فجوة بين الاجيال تتسع مع الوقت‏,‏ فالشباب الآن لهم افكار وسلوك وقراءات واسلوب حياة مختلفة عن الأباء‏,‏ وهذه مشكلة في كل المجتمعات‏,‏ لأن التغير في هذا العصرسريع بايقاع تفوق القدرة علي الملاحقة والتكيف معها‏,‏ وليس من السهل علي جيل الاباء ان يدخلوا عالم الشباب اليوم او أن يقفوا معهم علي ارضية واحدة‏..‏ والمجتمعات المتقدمة منشغلة بهذه القضية وتضع لها الحلول لتقريب المسافات وتقليل الفجوة بقدر الامكان‏,‏ ويستلزم ذلك جهدا خارقا من مؤسسات الأسرة أولا‏,‏ ثم المدرسة‏,‏ ثم الاعلام والثقافة‏,‏ علي أن يوجه هذا الجهد للشباب وللاباء ايضا‏,‏ لأن الأباء لايدركون بسهولة مدي اتساع هذه الفجوة‏,‏ ولايتقبلون بسهولة ان يغيروا اساليبهم في التربية ومعاملة الابناء‏,‏ والحل ليس في اسداء النصح للشباب وللآباء‏,‏ فما اسهل النصائح وما أصعب تنفيذها‏,‏

وتبقي قضية اشراك الشباب في المسئولية‏,‏ وتدريبه علي القيادة‏,‏ واعطائه الفرصة للتقدم الي الصفوف الأولي‏,‏ فان توافر التجزئة والحكمة في الشيوخ لايمنع من أن تكون هناك نسبة للشباب في المواقع المهمة لتكون حافزا علي الاجادة والابداع وبذل الجهد‏,‏ وتكون ايضا فرصة لاعداد جيل جديد من القيادات لديها خبرة ومرت باختبارات من خلال الممارسة واجتازتها بنجاح‏,‏

وأعتقد أن مؤتمر التنمية الاجتماعية المقبل هو الفرصة المناسبة لبحث فلسفة التغيير الاجتماعي وتصحيح مسار هذا التغيير‏..‏ فهناك تيار يري أن التغيير معناه نقل كل مفردات الحياة الامريكية والغربية عموما‏..‏ في الطعام والشراب واللهو والاعلام والزواج والطلاق والحب والعلاقات داخل الأسرة‏,‏ وهناك تيار آخر يرفض مسار الحضارة الغربية في القيم والسلوك الاجتماعي دون أن يتمكن من تأسيس مسار بديل‏,‏ وتيار ثالث استجاب للصدمة الحضارية مع التقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا بالدعوة الي رفض الحاضر والمستقبل‏,‏ وتكرار نماذج من الماضي‏,‏ واستعادة الفكر والقيم والعادات وحتي الملابس التي كانت سائدة في القرون الماضية‏..‏ وهذه ردة حضارية دون شك‏..‏ وهذا التناقض في التوجهات والاتجاهات يستلزم البحث عن الوسيلة المناسبة لرفع التناقض والتوصل الي صيغة حضارية تجمع بين اصالة المجتمع العربي ـ العربي ـ الاسلامي وبين التقدم في العلوم والمخترعات الحديثة بدلا من الثنائية والحيرة‏.‏

وهكذا‏..‏ ما أكثر القضايا التي تحتاج الي طرحها في الحوار في المؤتمر المقبل للتوصل الي رؤية اجتماعية للاصلاح والتغيير ومواجهها المشكلات الاجتماعية التي نشكو منها ونواجها بحلول جزئية وبأسلوب اطفاء الحرائق‏..‏ او نهرب منها‏..‏ وها هو الرئيس مبارك يدعونا الي القيام بعملية تشريح أمين للمجتمع لكي نصل الي الاسلوب الصحيح للتغيير والاصلاح الاجتماعي‏,‏ وهذه فرصة يجب الا تضيع منا وسط العبارات الرسمية البراقة‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف