ضروريات الإصلاح الاجتماعى

هناك اتفاق بين المتخصصين‏,‏ وبين عامة الناس أيضا‏,‏ علي أن المجتمع المصري يتغير بسرعة‏,‏ وهناك ظواهر جديدة في السلوك الفردي والجماعي‏,‏ وفي العلاقات الاجتماعية عموما ابتداء من العلاقات داخل الأسرة بين الزوجين والأبناء والعلاقات داخل تجمعات العمل‏,‏ وفي الأندية والنقابات وحتي في أماكن الترفيه‏,‏ وانتهاء بالعلاقات في مجلس الشعب والأحزاب والمنظمات السياسية‏..‏ مما يفرض علينا الاعتراف بأننا أمام مجتمع جديد مختلف عن المجتمع المصري الذي كان من قبل‏..‏

وهذا التغير في ذاته لايدعو للقلق‏,‏ حتي مع وجود الظواهر السلبية مثل انحراف الشباب وازدياد جرائم القتل والاغتصاب والسرقة‏,‏ وظهور جريمة جديدة هي البلطجة وانتشارها علي نطاق واسع‏,‏ وانتشار جرائم الرشوة والكسب الحرام التي تدخل في نطاق قانون الكسب غير المشروع‏,‏ وانتشار المخدرات‏..‏ الخ‏..‏ لايدعو ذلك كله الي القلق وان كانت القوانين تتلاحق بتجريم هذه الظواهر السلبية وزيادة العقوبات والتشديد الي أقصي الدرجة حتي أصبحت القوانين العقابية عندها تساير أكثر القوانين في العالم تشديدا في العقوبة علي كل الجرائم ابتداء من مخالفات المرور الي جرائم الاغتصاب والبلطجة ولم يقلل ذلك كثيرا من حجم الجرائم وظواهر السلوك المنحرف عموما‏..‏ وهذا ما يجعلنا نقول أولا ان الاصلاح الاجتماعي أصبح ضرورة ملحة ولا يجوز تأجيله بأي حال من الأحوال‏..‏ فلقد ترتب علي الاصلاح الاقتصادي نتائج اجتماعية عديدة بعضها ايجابي وبعضها سلبي ولابد من وقفة لدراسة هذه النتائج وبحث كيفية التعامل معها باسلوب علمي‏..‏ ولان المجتمع لايمكن ان يحدث فيه تقدم أو تغير في جانب دون أن يتزامن معه تغير في بقية الجوانب والا حدث اختلال في هذا المجتمع‏..‏ ومهما حققنا من نجاح في الجانب الاقتصادي فسيبقي للجانب الاجتماعي الأولوية‏..‏ لان التنمية والتصنيع والتعليم والعلاج والبيئة الأساسية وكل ما نفعله وننفق عليه مليارات الجنيهات سيظل مهددا اذا لم يكن محاطا بمناخ اجتماعي يساعد علي بقاء واستمرار وحماية ودفع هذه المكاسب الاقتصادية‏.‏

والتنمية والاصلاح الاقتصادي هدفهما في النهاية الانسان وهذا وحده كاف لكي نجعل قضيته الاصلاح الاجتماعي في مقدمة الأولويات‏,‏ علي الأقل لكي لا نترك الجانب الاجتماعي يتحرك أو ينمو بتلقائية أو عشوائية دون فلسفة واضحة وتنسيق بين الأجهزة والجهات المسئولة عن التربية والتكوين النفسي والعقلي للمواطن المصري‏..‏

وما نحتاجه الآن بالتحديد هو أولا تشكيل لجنة فنية علي مستوي عال من الخبراء الاجتماعيين لجمع ودراسة كل الأبحاث والتقارير والرسائل الجامعية التي تناولت التغيرات في الأفكار والاتجاهات والقيم والعادات والعلاقات والسلوك في مختلف القطاعات من الطفولة الي الشيخوخة‏,‏ وهذه الأبحاث كثيرة وفيها الغث والمفيد وتحتاج الي جهد لاستخلاص ما يفيد فيها في تشخيص الحالة الاجتماعية السائدة في مصر الآن والمقترحات العملية للتطوير والتصحيح والاصلاح‏.‏

وبعد أن تنتهي هذه اللجنة من دراستها وتعد تقريرا وافيا عن نتائج التغير في المجتمع المصري في الشرائح والطبقات وفئات السن المختلفة‏,‏ فان هذا التقرير يمكن أن يكون ورقة عمل أمام مؤتمر علي مستوي عال يشارك فيه الخبراء والمفكرون وأهل الرأي من كل الاتجاهات‏..‏ علي أن يكون مؤتمرا حقيقيا‏..‏ بمعني أن تكون فيه حوارات جادة‏..‏ وآراء جادة‏..‏ ومقترحات جادة‏..‏ ولا تكون التوصيات جاهزة من قبل انعقاده‏..‏ ولا مانع من أن تصدر التوصيات بعد شهر أو شهرين لتعدها لجنة الصياغة بأمانة ودقة وموضوعية ثم تعرض هذه التوصيات علي المؤتمر مرة أخري في دورة ثانية‏..‏ بذلك نصل الي فكر حقيقي وتصور جاد للاصلاح الاجتماعي‏..‏ مع ملاحظة ان الوزارات والأجهزة البيروقراطية ستعمل بكل قوتها لكي تحول هذا المؤتمر الي تجمع شكلي وتحول مناقشاته الي مجرد كلمات سطحية وانشائية تشيد بما هو قائم وتصور أعمال هذه الوزارات والأجهزة علي أنها معجزات تسبق مايحدث في أوروبا وأمريكا‏..‏ والضمان لعدم افراغ المؤتمر من محتواه وتبديد طاقة المشاركين فيما لايفيد‏..‏ يجب ألا يترك أمر الاشراف علي المؤتمر للأجهزة التنفيذية وحدها‏,‏ والأفضل أن تشرف عليه بعض الجمعيات المعروفة ذات السمعة والمقدرة الفنية والعلمية والتنظيمية‏.‏

هذا المؤتمر سوف يكون البداية الصحيحة للاصلاح الاجتماعي‏,‏ تماما كما كان المؤتمر الاقتصادي الذي دعا اليه الرئيس مبارك عند بدء ولايته الأولي وشارك فيه الرئيس بنفسه واستمع الي كل الآراء‏,‏ ونجح هذا المؤتمر بفضل الجدية والحرية في بلورة فلسفة جديدة للعمل ومشروع محدد للاصلاح الاقتصادي مازال كلاهما يمثل البوصلة للأداء العام حتي اليوم‏.‏

هذا المؤتمر الاجتماعي سوف يكون ساحة واسعة ومنبرا حرا لكل الآراء‏,‏ وفيه تطرح هموم الأسرة والمدرسة والمجتمع‏,‏ وتناقش بصراحة أوضاع الاعلام ومدي مساهمته ومسئوليته عن انتشار انماط السلوك المنحرف وخاصة بين الشباب‏.‏ ولابد ان تطرح الانتقادات التي توجه للاعلام الأمريكي والأوروبي والدراسات العديدة عن اثر التليفزيون في تعليم الجريمة‏,‏ وجعل الشباب يتقبل الانحراف ويشارك المنحرفين مشاركة وجدانية فيها الاعجاب بهم وربما أيضا اعتبارهم النجوم المفضلين والقدوة‏.‏ ومايقال عن التليفزيون يقال عن الصحافة والغناء ومدي كفاية التربية الاجتماعية في المدارس‏,‏ وكيفية اعادة الدور التربوي للأسرة وللآباء علي وجه الخصوص بعد أن تراجع هذا الدور كثيرا في السنوات الأخيرة‏.‏

قضايا كثيرة سوف تطرح في هذا المؤتمر‏,‏ وستكون هذه فرصة لتوسيع دائرة الحوار في المجتمع كله‏..‏ لكي ينشغل المجتمع بالقضايا الاجتماعية والسلوكية والانسانية بمثل انشغاله بالقضايا الاقتصادية وبذلك يستعيد المجتمع التوازن ويزداد نضجا‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف