الدور الوطنى للكنيسة

في التاريخ المصري‏,‏ وفي كل العصور‏,‏ صفحات ناصعة ومشرفة للمؤسسة الدينية‏:‏ الأزهر‏,‏ والكنيسة‏,‏ في مجال العقيدة‏,‏ وفي مجال الوطنية‏,‏ وفي مواجهة الحملات المشبوهة علي روح الوحدة في المجتمع المصري‏,‏ وعلي الهوية الحضارية والثقافية المميزة للمصريين منذ قرون بعيدة‏,‏ فإن الحاجة ملحة الي تجمع المثقفين والمفكرين لمواجهة هذه الحملات بالعقل والمنطق‏,‏ وبالحجة والدليل‏,‏ وبنشر صفحات التاريخ الزاهية التي تعكس الروح الحقيقية لمصر والمصريين‏..‏ وهذا ما نجحت فيه الندوة العلمية التي نظمتها لجنة التاريخ بالمجلس الأعلي للثقافة وحشدت فيها أساتذة التاريخ الكبار‏,‏ واستمرت يومين كاملين دارت فيهما حوارات عميقة‏,‏ وجادة‏,‏ وموضوعية‏,‏ حول الدور الوطني للكنيسة المصرية عبر العصور‏.‏

والحقائق الموثقة التي عرضت في هذه الندوة يجب أن تصل الي كل مصري‏,‏ وكل عربي‏,‏ بل ويجب توصيلها بكل اللغات الي كل الجامعات‏,‏ والي كل المفكرين ورجال الاعلام في الولايات المتحدة وأوروبا‏,‏ وأري ضرورة اهداء نسخة باللغة الانجليزية الي كل أعضاء الكونجرس الأمريكي‏,‏ والي كل المهتمين بحقوق الانسان‏,‏ وأكثر من ذلك أري من الضروري عقد ندوات مماثلة يدعي اليها كل الباحثين والسياسيين والصحفيين الذين شاركوا في الحملات الاعلامية الغربية والمشبوهة في وسائل الاعلام الغربية ليروا بأنفسهم مايحدث وما يقال علي لسان المصريين اقباطا ومسلمين‏,‏ وليعلموا ما يجهلونه من حقائق تاريخ وجذور الوحدة في نسيج الشعب العربي‏,‏ وتوحد هذا الشعب في الثقافة‏,‏ والفكر‏,‏ والعادات والتقاليد‏,‏ وأسلوب الحياة والسلوك‏,‏ وليعلموا الي أي مدي يصل الاتفاق والتوافق بين المصريين في مفاهيم الدين والعقيدة‏,‏ وفي حدود الاتفاق والاختلاف بينهم‏.‏

كانت بداية الندوة موفقة بدراسة الدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور حين عاد الي جذور الفكر الاسلامي ليستعرض موقف الاسلام والمسلمين منذ البداية من المختلفين معهم في الديانة‏..‏ ويتلخص هذا الموقف ـ كما جاء في رسائل اخوان الصفا ـ في ان الأنبياء جميعا ليس بينهم خلاف في عقيدة الايمان بالله‏,‏ ويختلفون في الشريعة‏,‏ وهي مجموعة الأوامر والأحكام‏,‏ بحسب اختلاف الزمان‏:‏ ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‏,‏ و واقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏..‏ فهناك اتفاق في الدين ومعني الدين هو الخضوع والطاعة لله‏,‏ واختلاف في الشريعة لا يؤدي الي تعارضها‏..‏ فالمعبود واحد‏,‏ والاحكام مختلفة‏..‏ الجوهر واحد‏..‏ لان الرسالات السماوية لايمكن أن يكون بينها أي تعارض مادام المصدر واحدا‏..‏ والرسول صلي الله عليه وسلم يعلم المسلمين انه لم يبعث ليهدم ما سبقه ولكن ليكمل‏..‏ ولان المسلمين الأوائل كانوا يفهمون ذلك جيدا فقد جعلوا لاقباط مصر مكانة خاصة في قلوبهم‏,‏ وعندما دخل العرب مصر كان الأقباط يعانون اضطهاد الدولة البيزنطية رغم انها دولة مسيحية‏..‏ وكان البطريرك بنيامين هاربا في الصحراء من عدوان الدولة البيزنطية التي هدمت الكنائس والأديرة‏,‏ وبدخول العرب مصر عاد البطريرك الي كرسيه‏,‏ وأعيد بناء الكنائس والأديرة وتمتعت الكنيسة القبطية المصرية بالحرية في تصريف شئونها‏..‏ وخلال مسيرة التاريخ كانت هناك صدامات‏,‏ ولكنها لم تكن صدامات بين الاسلام والمسيحية‏,‏ ولكنها كانت بين جماعات وأفراد نتيجة لعدم فهم لروح الدين وأهدافه‏,‏ والذين تزعموا هذه الحركات الهدامة كانوا من الحكام المعروفين بالتطرف وسوء التصرف‏,‏ أو من بعض فئات تظهر بين الحين والحين بسلوك مريض يعكس ضيق الأفق وعدم الوعي بأصول الدين‏.‏

ويكفي ان هذه الندوة القت أضواء مبهرة علي مواقف الاقباط والكنيسة المصرية في كل المراحل التي تعرضت فيها مصر للغزو أو الاحتلال‏,‏ ففي الازمات تظهر دائما أصالة الروح الوطنية للكنيسة وللاقباط‏,‏ ففي البداية انحاز الأقباط الي الحكم الاسلامي ضد حكم الدولة البيزنطية المسيحية‏..‏ وبعد ذلك انحاز الاقباط والكنيسة الي المسلمين وحاربوا مع صلاح الدين ضد الحملة الصليبية‏,‏ وفشلت محاولات الصليبيين في استمالة الأقباط المصريين اليهم بادعاء الوحدة في المسيح والعمل معا تحت الصليب‏..‏ ورفعت الكنيسة القبطية شعارا ظل معبرا عن موقفها في كل المراحل بعد ذلك وهو ان ارتباطها بمصر وبالمسلمين المصريين أقوي من ارتباطها بكل ما هو أجنبي حتي ولو كان مسيحيا‏,‏ مادام يريد غزو واحتلال الوطن‏..‏ وهذا الموقف تجلي أثناء الحملة الفرنسية ـ كما شرحه الدكتور محمد عفيفي ـ فقد إفضت الكنيسة ادعاء المستعمرين انهم أخوة للأقباط لأنهم مسيحيون‏,‏ وكان موقف الكنيسة والاقباط يقول ببساطة‏:‏ بل أنتم مستعمرون ولا يهم بعد ذلك من أي ديانة أنتم‏..‏ ونظرت الكنيسة الي الفرنسيين لا علي أنهم مسيحيون بل علي أنهم افرنج وغرباء‏..‏ ولم يتعاون مع قوات الاحتلال الفرنسي الا المعلم يعقوب وجماعته ولم يكن هؤلاء يمثلون الاقباط ولكنهم كانوا يمثلون الخونة والعملاء في كل المراحل‏,‏ وكان موقف المعلم يعقوب خروجا علي موقف الكنيسة وتمردا علي سلطتها‏,‏ وتشهد المصادر الفرنسية بفشل محاولات قادة الحملة الفرنسية في كسب الكنيسة الي صفها أو جذب الاقباط للتعاون معها‏..‏ وكان ذلك صدمة للفرنسيين وعلي عكس ما توقعوا قبل مجيئهم الي مصر‏,‏ اذ كانت حساباتهم قائمة علي أنهم سيجدون من الاقباط الدعم الأكبر لوجودهم‏,‏ فوجدوا الاقباط مع المسلمين صفا واحدا في الرفض والمقاومة للاحتلال‏.‏

هذا ما تكرر بعد ذلك مع الاحتلال البريطاني ـ كما أفاض في شرحه الدكتور يونان لبيب رزق ـ فلم ينظر الاقباط للاحتلال علي أساس وحدة الدين‏,‏ وقد قاومت الكنيسة الارساليات التبشيرية الغربية‏,‏ وبعد ان كان الانجليز يعملون علي استمالة الاقباط والكنيسة للتعاون معهم‏,‏ تحول موقفهم بعد أن تأكدوا من فشلهم في ذلك‏,‏ وأصبحوا يبادلون الكنيسة العداء‏,‏ وفي الجزء الثاني من مذكرات اللورد كرومر المعتمد البريطاني‏14‏ صفحة عبر فيها عن حقده وخيبة أمله في الاقباط المصريين‏,‏ فقال ان المسيحيين المصريين مثل المسلمين أعداء للاحتلال منذ اليوم الأول‏,‏ وكان البطريرك كيرلس الخامس الذي شغل المنصب البابوي‏53‏ عاما من‏1882‏ حتي‏1914‏ قائدا لحركة اصلاحية في الكنيسة وصاحب موقف صلب ضد سياسات الاحتلال البريطاني‏,‏ وأعلن تجرد المحتلين من المسيحية بالعدوان علي مصر‏,‏ وكان من أثر ذلك ان أصدر الانجليز قرارا بنفي البابا كيرلس ومعاونيه في الصحراء‏,‏ وشهدت ثورة‏1919‏ التحام الشعب المصري بصورة اذهلت العالم وليس الانجليز وحدهم‏..‏ وصدرت أحكام الاعدام والنفي علي قادة الثورة من كل المستويات‏,‏ وشمل الاعدام والنفي الاقباط والمسلمين دون تفرقة‏..‏

وكنت أرجو أن تمتد دراسات الندوة الي مابعد الاحتلال البريطاني وثورة‏19..‏ ولتفتح لنا بالوثائق والحقائق ملفات ومواقف الكنيسة والاقباط في الكفاح الوطني الممتد سواء ضد العدوان الثلاثي عام‏1956‏ أو الغزو الصهيوني عام‏67‏ أو حرب العبور والنصر في‏73..‏ ويضاف الي هذه الصفحات المضيئة صفحات أخري في العمل من أجل البناء والتنمية‏,‏ومواجهة الحملات السياسية والاعلامية المعادية والمشبوهة التي تهب علينا بين الحين والحين‏,‏ لكي تفرق الشمل‏,‏ وتثير الحساسيات‏,‏ وفي كل مرة يخيب سعي من يخططون لهذه الحملات‏.‏

وقد يبدو ان وحدة المصريين لاتحتاج الي مزيد من الندوات والدراسات لأنها من حقائق الحياة المصرية الراسخة في بناء وكيان مصر والمصريين‏..‏ ودليل ذلك ان نموذج الوحدة والإخاء بين المسلمين والأقباط في مصر نموذج فريد لا مثيل له في العالم وهذا هو سر الدهشة التي نراها في الغرب لأنهم لم يعرفوا‏,‏ ولم يعايشوا‏,‏ مثل هذه الروح في مراحل تاريخهم‏..‏ ومع ذلك فإن الأجيال الجديدة تحتاج الي المزيد من هذه الندوات وتحتاج الي اذاعة هذه الندوات بالكامل في التليفزيون ليشاهدها كل المصريين ويتعمق فيهم الحس التاريخي ويتعرفوا علي صفحات التاريخ القديم والحديث لكي يزدادوا ايمانا بأن مصر هي كل المصريين دون تفرقة‏..‏ هكذا كانت دائما في كل العصور السابقة‏..‏ وهكذا ستبقي دائما في كل العصور القادمة‏..‏ ولو كره الكارهون‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف