حلم الإصلاح الإدارى

صبحنا نشعر بالملل كلما سمعنا أو قرأنا تصريحات جديدة عن بدء ثورة ادارية‏,‏ أو إصلاح‏,‏ أو تطوير أو هز الجهاز الحكومي‏..‏ فقد تعاقبت علينا موجات من هذه التصريحات طوال نصف قرن أو يزيد‏,‏ ولم يتحقق تقدم حقيقي يمكن ان يلمسه المواطن العادي في تعامله مع الأجهزة البيروقراطية الحكومية‏..‏ بل لقد اصبح المواطن الذي يضطر الي التعامل مع جهة حكومية يشعر بالخوف والقلق‏,‏ ويبحث عن واسطة او وسيلة لتسهيل تعامله وإنجازه لمصالحه‏.‏

ومشاكل الإدارة الحكومية في مصر قديمة‏,‏ وراسخة‏,‏ وكثيرة‏,‏ ومعقدة‏,‏ ولم يبدأ عمل ثوري وجاد للتغيير‏..‏ وكل ما حدث هو عملية ترقيع وتحسين جزئي في بعض المواقع لتكون واجهة يشاهدها الزوار وكبار المسئولين‏,‏ أو تكون شهادات يستند اليها الوزراء المختصون للقول بأن الإصلاح تم علي أحسن ما يكون‏.‏

ويكفي ان يدخل الانسان المبني المجمع في ميدان التحرير‏,‏ او مكاتب العاملين المتعاملين مع الجمهور في المحاكم‏,‏ او السجل المدني‏,‏ او مديريات التموين‏,‏ او غيرها من مواقع الخدمات ليري الصعوبات التي يواجهها المواطن العادي الذي لا يحمل بطاقة توصية اوخ لا يصحبه شخص لتسهيل مهمته‏..‏ بل ان المواطن ـ حتي الآن ـ لا يعرف ما هو مطلوب منه من اوراق وشهادات وتوقيعات‏,‏ ويستطيع بالتفاهم مع الموظف المختص ان يحصل علي ما يريد دون تعقيدات تجعل غيره يقضي اياما في استكمال ما هو مطلوب منه‏.‏

وشكوي المواطنين من موظفي الحكومة اصبحت من الأعراض المزمنة التي لا تشغل احدا وكذلك شكوي القيادات وكبار المسئولين من انتشار السلبية بين الموظفين واللامبالاة‏,‏ والانتاجية الضعيفة‏,‏ والمطالبة بامتيازات وحوافز ومكافآت بدون جهد ويعترف الجميع بأن نظام الحوافز لم يعد يمثل حافزا للموظفين المجدين‏,‏ لأن الحوافز تعرف كجزء مكمل للمرتب وتمنح للمجتهدين والكسالي‏,‏ وكذلك الأجور الإضافية لم تعد تصرف مقابل عمل اضافي حقيقي يزيد علي العمل الأصلي‏,‏ ولكنها منحة تحولت الي حق مكتسب‏,‏ وتمنح لمجرد أن العاملين قد رتبوا نظام حياتهم علي الحصول عليها‏,‏ فأصبحت هي الأخري جزءا من المرتب‏.‏

وبذلك فقدت هذه المزايا وظيفتها في زيادة نشاط وأداء الموظفين وإنجازهم لعملهم‏..‏ والتقارير السنوية عن أداء الموظفين فقدت هي الأخري وظيفتها في تقييم كل موظف وتحديد مستواه‏,‏ واصبح من حق الجميع الحصول علي تقدير ممتاز دون يكون ذلك معبرا عن الحقيقة‏,‏ ويكفي ان نعرف ان اكثر من‏95%‏ من موظفي الحكومة المصرية يحصلون علي تقدير ممتاز لندرك ان هذه التقارير اصبحت من الأمور التي تدعو للضحك‏.‏

ومازالت الشكوي كما هي منذ نصف قرن من تركيز السلطة وعدم محاسبة الموظف المهمل‏,‏ وانتشار الميل بين الموظفين للتهرب من تحمل مسئولية الأعمال التي يقومون بها برفع كل الأوراق الي رؤسائهم بحيث تتكدس كل الأعمال لدي الرؤساء ويصبح عليهم ان يتخذوا كل القرارات‏..‏ ومع هذا الاتجاه اصبح شائعا ان يكتب الرؤساء تأشيرات غير واضحة وغير محددة‏,‏ وساعد علي انتشار هذه الظاهرة ان الوزراء انفسهم يكتبون تأشيرات مراوغة ومضللة وغير قابلة للتنفيذ‏,‏ فالوزير يكتب موافق ويكتشف المواطن العادي ان هذه التأشيرة لا تعني شيئا لأن هناك لغة سرية بين الوزير والعاملين في وزارته تجعل هذه التأشيرة غير ذات معني اذا لم يكتب بعدها عبارات خاصة متفقا عليها‏...‏ اواذا لم يكتبها بحبر بلون معين‏..‏ والنتيجة ان المواطن الذي يجاهد ويتعب حتي يتمكن من الوصول الي الوزير بوسيلة أو بأخري ويظن أنه وصل الي صاحب القرار‏,‏ يكتشف أن الوزير ضحك عليه‏,‏ وغشه‏,‏ وأعطاه تأشيرة مضروبة كما أصبحت تسمي الآن‏..‏ وطبيعي ان يتعلم الجميع ممن هم اقل من الوزير مرتبة كيف يستخدمون نفس الأساليب‏,‏ ويجد المواطن نفسه في حيرة من أمره‏..‏ حيث تصبح الموافقة تعني عدم الموافقة‏,‏ والأمر بالتنفيذ لا يؤدي الي التنفيذ‏,‏ وتفقد الكلمات معناها‏,‏ ويشعر المواطن انه ضحية‏..‏ أو أنه كالأيتام كما يقول المثل الشعبي‏:‏

نصف قرن ولم تتحقق الوعود بتحسين اساليب العمل في الإدارات الحكومية‏,‏ ولم تعد الثقة المفقودة بين المواطنين والموظفين ولم تعد القواعد المعلنة موضع احترام‏,‏ لأن كل قاعدة لها استثناءات‏,‏ وبعد فترة تتحول الاستثناءات الي قاعدة بالتوسع في استخدامها‏,‏ وادي ذلك الي عدم ثقة المواطن في القواعد لأنه يعلم ان هناك من لا يلتزم بها ولا تسري عليه‏,‏ وهذا هو سر الضغط غير العادي علي اعضاء مجلس الشعب والوزراء‏,‏ وتزايد طلبات الاستثناء‏,‏ لأن هناك شعورا عاما بأن كل قاعدة يمكن اختراقها‏,‏ وكل قانون يمكن التحايل عليه‏..‏

وكثير من اوجه الإصلاح الإداري التي نسمع عنها ليست الا مظاهر شكلية لا تمس جوهر العمل‏,‏ ولا تعني حدوث تغيير حقيقي‏..‏ فإدخال الكمبيوتر مثلا لا يعني ان شكوي المواطنين من التعقيدات قد انتهت‏..‏ ووجود لافتات ترحب بالمواطنين لا تعني ان المواطنين يجدون الترحيب الحقيقي‏..‏

ونحن نتحدث كثيرا عن اسرار النهضة في اليابان ونقول انها تتلخص في نهضة شاملة في التعليم‏,‏ ونهضة شاملة في الإدارة‏,‏ وبفضل التعليم والإدارة اصبحت اليابان دولة عصرية جعل منها ثاني دولة صناعية وتكنولوجية ومالية في العالم بعد الخراب الشامل الذي اصابها عقب دك هيروشيما وناجازاكي بالقنبلة الذرية وخروجها من الحرب العالمية الثانية مهزومة ومحطمة‏..‏ ورغم الصورة التي كان يروجها الغرب عن اليابان علي انها تعتمد علي سرقة وتقليد ابتكارات الغرب‏..‏ فإن اليابان اصبحت عملاقا حقيقيا ولم يتحقق ذلك إلا بالتعليم والادارة‏.‏

والقضية اننا حققنا في الإصلاح الاقتصادي نجاحا ملموسا واستطعنا ان نفتح الأبواب امام الاستثمارات الأجنبية والمحلية‏..‏ ولدينا الآن مشروع متكامل للنهضة‏..‏ وبدأنا التحدي في مشروعات كبيرة سوف تغير وجه الحياة‏..‏ ولكننا لم نستطع ان نغير الإدارة الحكومية تغييرا يجعلها مؤهلة للمشاركة في هذه النهضة‏..‏ واذا لم نسرع بوضع استراتيجية للتغيير الاداري‏..‏ يشمل فلسفة واساليب العمل في الحكومة كما يشمل القوانين واللوائح ونظم التوظف والترقية‏..‏ فسوف نكتشف ان مشروع النهضة ذاته مهدد ولن يحقق اهدافه كاملة‏..‏

واهم ما يعوق التغيير والتطوير اننا مازلنا نكتفي بتهنئة انفسنا كلما رددنا القول بأن التطوير قد تم وان الشكوي ليست إلا صيحات الحاقدين والجاحدين‏..‏ والحقيقة اننا نحتاج الي وقفة جادة ليس من اجل هز الجهاز الحكومي ولكن من أجل اعادة بنائه علي أسس جديدة‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف