الربيـع لـم يــأت بعــد

فى الغرب أطلقوا على الثورات فى بعض الدول العربية اسم «الربيع العربى» وانتقلت هذه التسمية إلى هذه الدول العربية وأصبحت على كل لسان وعلى كل قلم وكل صحيفة تقريبا، ولكن الغرب عاد مؤخرا ليتراجع عن هذه التسمية، فيطلق عليه بعض المعلقين «الشتاء العربى» ويسميها بعض المسئولين فى الإدارة الأمريكية «الخريف العربى»، وذلك نتيجة للانقسامات والفوضى والعنف واستمرار المظاهرات والاحتجاجات وتوقف العمل والحياة اليومية تقريبا وعدم الاتفاق على خطة يسير فيها الجميع تحت راية هذه الثورة.
يكفى أن نقرأ تقرير تقصى الحقائق الذى أصدره المجلس القومى لحقوق الإنسان عن أحداث العنف الأخيرة التى جرت فى ثمانى محافظات لنرى أن عدد القتلى فى هذه الأحداث بلغ 56 شخصا منهم 53 من المدنيين و3 من جهاز الشرطة وليس ذلك فقط ولكن التقرير يرصد وقائع الإعتداء على 48 منشأة منها 35 موقعا حكوميا ومنشأة عامة و13 منشأة خاصة، و10 حوادث قطع طرق، وتعطيل 8 منشآت عامة عن تقديم خدماتها للمواطنين، وأن عدد المقبوض عليهم فى هذه الأحداث بلغ 450 مواطنا تقرر حبس 380 منهم على ذمة هذه القضايا.. كل ذلك فى مظاهرات استمرت ساعات بدأت مساء وانتهت صباح اليوم التالى..
هل يمكن اعتبار العنف وسقوط قتلى ومصابين من الأدلة التى تشير إلى الربيع؟! وهذا ما جعل الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى أكمل الدين إحسان أو غلو إلى أن يقول فى حديثه مع صحيفة «الشرق الأوسط» إن مصر تعيش حالة مخاض كبيرة وهذا المخاض ليس بالأمر اليسير أو السهل، وأن تعبير «الربيع العربى» لا يعبر عن الأوضاع الحالية، وفى رأى الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى أن التعبير الأدق هو أن ما حدث هو «خريف الغضب» من أجل إسقاط الطغاة وبداية مخاض كبير، ومازال الخريف مستمرا.. ويبدو أن الرجل يرى أن ما يحدث يشير إلى أن القادم أسوأ بسبب ما يحدث من عنف من جميع الأطراف وفى كل دول الثورات العربية فهو يرى أن هذا «الخريف» سوف يعقبه شتاء صعب، وفى النهاية - بعد المخاض - سوف يأتى الربيع، ولكن لا يمكن أن يأتى الآن !
***
كيف يمكن اختصار مرحلة «الخريف» وتفادى مرحلة «الشتاء» للوصول إلى الربيع مبكرا، إجابة الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى قبيل أن يترك منصبه: إن مستقبل الثورات فى المنطقة يعتمد على كيفية التوازن بين الدين والسياسة، بحيث لا يتحكم الدين فى السياسة الآن السياسة قائمة على مصالح واعتبارات دنيوية ومتغيرة والدين قائم على قيم مطلقة، وهناك بطبيعة الحال علاقات متبادلة، والقيم الإسلامية فىالحكم مثل العدل والمساواة لابد من مراعاتها فى السياسة والحكم بشرط أن تكون العلاقات متوازنة.
أما شبكة سى. إن. إن الأمريكية فقد قالت فى تحليل لها للموقف الحالى إن حالة الفوضى الحالية تدل على أن المصريين يعرفون ماذا يرفضون ولكنهم لا يعرفون ماذا يريدون، وهذا هو السبب فى عدم الاتفاق بين القيادات السياسية والقاعدة الجماهيرية، والوصف الدقيق للحالة هى أن مصر تعيش مرحلة من الصدام السياسى، وأن أغلب المصريين يعانون من الإحباط، لأن الثورة لم تجلب بعد عامين إلا العنف والفقر ولم تحقق حتى الآن ما قامت الجماهير من أجله ولم تحقق «عهدا جديدا» والاقتصاد المصرى يواجه خطى السقوط المدوى.. هذا ما قالته شبكة سى.إن.إن الأمريكية التى توصف بأنها الأكثر معرفة بدقائق الأمور والأكثر قدرة على تحليل الأحداث والأقرب إلى الشارع وما يجرى فيه..
***
الأرقام المعلنة تثير القلق.. عدد الشهداء منذ بداية الثورة بلغ 1200 شهيد، وعدد المصابين زاد على 6 آلاف منهم من فقد إحدى عينيه ومن فقد العينين الاثنتين ومنهم من فقد الساق أو أصيب بالشلل أو اخترقت رصاصة المخ ولم تؤد إلى الموت!!
أما الفساد فإن الدكتور جلال أمين المفكر السياسى المعروف يرصد استمراره مع تغير فىنوعية الفساد والفاسدين، فيقول إن الفساد قبل ثورة 1952م كان سطحيا بالمقارنة بالفساد الذى كان سائدا قبل ثورة 25 يناير.. قبل هذه الثورة كان الفساد قد انتشر فى كل مكان وفى كل الطبقات، ووصل إلى أعماق المجتمع المصرى، وبعد الثورة مازال الفساد موجودا، ولا يكفى للقضاء عليه تنحية بعض الأشخاص، بينما الفاسدون الآن أكثر من الفاسدين الذين أفسدوا الحياة السياسية والاجتماعية قبل ثورة 1952، والفاسدون اليوم لا يهتمون بمصالح الوطن أو بحقوق المواطنين، لأنهم أكثر فسادا من الفاسدين الذين قامت ثورة 1952 للقضاء عليهم.
استمرار الفساد بهذا الحجم، وبهذه النوعية المتوحشة من الفاسدين، هل هو السبب فى تحول الربيع العربى ليصبح الخريف العربى، أم أن الجرعة الزائدة من بيانات الحكومة عن حجم الأموال المنهوبة فى الداخل والمهربة فى الخارج التى تعمل الحكومة على إعادتها دون أن يتحقق ذلك، ومسئول فى الحكومة هو الدكتور محمد محسوب وزير الدولة للشئون القانونية الذى كان مسئولا عن تنفيذ خطة الحكومة لاسترداد الأموال المهربة، واستقال من منصبه وأعلن أن الدولة المصرية لم تقم بواجبها كما ينبغى فى ملف استرداد الأموال المهربة، وأنه توصل إلى أن حجم الأموال التى ظهرت لا تزيد على أحد عشر مليار جنيه وهى مبالغ زهيدة بالنسبة للحجم الحقيقى لهذه الأموال المهربة، والأموال التى تكشفت ظهرت أثناء حركة اخفائها، ولإبراء ذمته أعلن أنه استقال بسبب عدم البت فى التقرير الذى قدمه للرئاسة حول هذا الملف واقترح فيه إنشاء هيئة خاصة تختص بالعمل على استرداد هذه الأموال ومتابعة القضايا التى ترفع فى الدول التى بها هذه الأموال، وكذلك متابعة الاتصالات الرسمية بهذه الدول وبالهيئات الدولية المختصة بمحاربة الفساد على أن تضم هذه الهيئة عددا من الدبوماسيين والقضــــاة والقانونيين وشخصيات من المجتمع المدنى.. وفى نفس الوقت أعلن تقرير الشفافية الدولية أن نتاج الفساد فى مصر بلغ 800 مليار دولار سنويا وأن 200 مليار دولار يمكن استردادها لكن مصر لم تسترد شيئا وإنما حصلت على بضعة ملايين نتيجة (تسوية) وليس (استردادا).. هل هذا ضمن أسباب تأخر الربيع العربى؟
***
وليس بعيدا عن هذه الحقائق والتحليلات ما أعلنته هيلارى كلينتون أمام لجنة فى مجلس الشيوخ قبل أن تغادر موقعها كوزير خارجية للولايات المتحدة، فقد قالت إن ما يحدث فى دول «الربيع العربى» يثير القلق لأن الولايات المتحدة لم تساند الثورات فى هذه الدول لكى تسودها الفوضى ويقودها المتشددون.
وقريبا من ذلك ما يقوله المستشار طارق البشرى المؤرخ والمفكر السياسى والفقيه القانونى من أن هناك من يعمل على تحويل الأحداث فى مصر - وغيرها- من السير فى طريق بناء نظام ديمقراطى يرعى مصالح الشعب لكى تسير إلى طريق نشر العشوائية فى الفكر والمواقف، وزرع الوقيعة بين الشعب وأجهزة الدولة.
وأخيرا فقد كان تحذير وزير الدفاع إشارة إلى الخطر من استمرار الأوضاع على ما هى عليه من فوضى وتخريب وعنف ويعلن بوضوح أن مصر تواجه تهديدا حقيقيا لأمنها وتماسكها، وأن استمرار هذا المشهد دون معالجة من جميع الأطراف يؤدى إلى عواقب وخيمة على استقرار الوطن.. وحين يأتى التحذير من وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة يجب على الأطراف المتصارعة والجماهير المندفعة عشوائيا أن تنتبه وتفكر فى مصلحة البلد قبل فوات الأوان.
ومن ذلك سيأتى الربيع بالتأكيد فى نهاية المطاف عندما يبدأ تحقيق مطالب الجماهير، (عيش - حرية - عدالة اجتماعية - كرامة إنسانية) وحين يبدأ السير حقيقة على طريق الديمقراطية التى تعبر عن «الشعب» وليس عن فئة أو طبقة أو جماعة.*

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف