آلام طه حسين (2-2)

كانت المحنة الكبرى فى حياة طه حسين بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى» فقد وجد خصومه فى هذا الكتاب فرصة للقضاء عليه، وتجمع عليه الخصوم السياسيون وكان من السهل إثارة أنصاف المتعلمين الذين لا يعرفون شيئا عن المنهج العلمى فى البحث، ولا منهج ديكارت فى الشك وطرح كل قضية للبحث بحرية تامة إلى أن يعمل العقل فيها إلى اليقين. ولأن طه حسين كان أكثر تفتحا واستناره من كثير من أبناء جيله فقد كان عليه أن يدفع الثمن غاليا. بعد مارس 1926 صدر كتاب «فى الشعر الجاهلى» رأى فيه المتعصبون وأعداء حرية الفكر جريمة لا تغتفر، ودخلت السياسة فى المعركة، كان رئيس الوزراء عدلى يكن زعيم حزب الأحرار الدستوريين الذى يتعاطف معه طه حسين، ورئيس مجلس النواب كان سعد زغلول وكان طه حسين يهاجم سياسة الوفد، فاستغل الوفديون فى المجلس الفرصة لتصفية الحساب معه، وظلت الصحف الوفدية تهاجم طه حسين يوميا، وصدرت ثلاثة كتب للرد على ماجاء فى هذا الكتاب بينما وقف أصحاب الفكر الحر يدافعون عنه دون جدوى ومنهم أحمد لطفى السيد والدكتور محمد حسين هيكل ومنصور فهمى باشا وعباس محمود العقاد. وأمام ثورة النواب وتحريض الكتاب وبعض شيوخ الأزهر كان على طه حسين أن يدفع ثمن «جريمته» وهى أن يكون إنسانًا حرا وأن يعطى نفسه الحق فى حرية التفكير. وتقول زوجته - سوزان - الحق أنه لم يكف على الإطلاق عن دفع هذا الثمن إلا أنهم كانوا هذه المرة يريدون سحقه، فطردوه من الكلية التى كان أستاذا لامعا فيها وعنوانا لكرامتها، ولم يكتفوا بفصله وتشريده وإنما أرادوا إحراق كتبه وطردوه من البيت الذى يسكن فيه، وأغرقوه بالشتائم، وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة تمكنه من العيش.. ولكى يتمكن من تدبير معاشه حاول بيع الصحيفة التى كان يصدرها لكن عملوا على منع اتمام الصفقة، وأنذروا البعثات الأجنبية فى مصر بعدم تقديم عروض له للعمل فى الخارج، لكن الجامعة الأمريكية كانت وحدها التى أعلنت التحدى لهذا الانذار وطلبت من طه حسين أن يلقى مجموعة من المحاضرات، وكانت الفرصة هى طوق النجاة، فقد وجد من المكافأة التى قررتها الجامعة ما يعينه على مواصلة العيش هو وزوجته وابنته وابنه، ووجد من طلبة الجامعة دعمًا معنويا لا يقدر بثمن.
استمر هذا الحال ثلاث سنوات احيل طه حسين أثناءها إلى محكمة الجنايات بتهمة ازدراء الدين الإسلامى. وكان عليه أن يقضى أيامه فى تحقيقات النيابة وجلسات المحكمة ومقابلة المحامين، وتصف زوجته الحال التى كان عليها فتقول: إن الهزات التى سببها لنا كتاب «الشعر الجاهلى» أساءات إلى وضعنا، فالضجة التى أثيرت حوله وثورة الجهل والتعصب جعلت طه حسين يعانى أشد المعاناة ولكن رزانته الثابته كانت تمنعه من الشكوى، وأخيرًا فإن هذا الصراع أرهقه، وشعر بغصة لا داواء لها بسبب هذا الحقد الأسود، وكان يتألم لنجاح الجهلة والحاقدين والمتعصبين فى تحريض أناس طيبين ضد مفكر شريف لمجرد أنه أعلن رأيا ظن أنه سيكون موضع مناقشة ولكن تم جره إلى المحكمة بعد أن صادروا كتابه الذى أفنى فيه عصارة فكره، وكانت تؤلمه جدًا الحملات القاسية فى الصحافة والشتائم التى يسمعها والتهديدات بالقتل التى كانت تصل إليه وبسبب جدية هذه التهديدات فرضت حراسة على بيته لعدة أشهر.. كل هذه الأحداث كانت تذهله وتستشير ضميره العلمى، وكان قلقه الأكبر على ابنه وابنته عندما حرموه من مورد رزقه «ولم تكن تلك هى المرة الوحيدة» ومع ذلك فقد احتمل كل شىء بصلابة ورأس مرفوع، وأخيرًا صدر الحكم برفض الدعوى دون أن يتراجع خطوة واحدة.. لم يقهروه وعاد ليكتب: «فلتحيا الحرية، ولكن لمن هم جديرون بها».
***
لم يتمكن طه حسين من التغلب على شعوره العميق بالمرارة، ولم يستعد صحته بعد أن تعرض لمرض أنهكه، إلا بالاستجابة لزوجته والسفر معها إلى قرية صغيرة فى فرنسا، وهناك كتب خلال تسعة أيام كتابه «الأيام» والغريب أنه - على الرغم من الظروف الصعبة - كانت الأفكار الجديدة تتزاحم فى رأسه.
وتضامنا مع طه حسين أعلن عدد من الأساتذة الأجانب رفضهم العودة للتدريس فى الجامعة احتجاجا على فصله، وصدر فى فرنسا كتاب من تأليف البروفيسور بيرجشتراسه وفى صفحته الأولى خص طه حسين بالإهداء كما يلى «أقدم كتابى إلى طه حسين الذى يناضل فى الصف الأول فى سبيل تقدم الروح العلمية، وعانى طه حسين طويلًا وهو فريسة لمرض خطير فى وقت لم تكن المضادات الحيوية قد عرفت بعد».. وكان الشباب من طلبة وأساتذة الأزهر يزحمون كل مكان يلقى فيه محاضراته العامة التى لم يتوقف عن القائها بلا مقابل على الرغم من ظروفه الصحية والمالية، ودعاه الأمير يوسف كمال إلى العشاء تكريمًأ له واعتذارا عما يلاقيه، وكان تشجيع هدى شعراوى وصفية زغلول والنحاس يخفف عنه الألم فى هذه المحنة.
***
تعرض طه حسين للتحقيق فى النيابة عدة مرات بناء على بلاغات ضده وكانت كلها بلاغات سخيفة لمجرد إرباكه والتأثير عليه معنويا وحتى أن وكيل النيابة فى جلسات التحقيق فى أحد هذه البلاغات لم يستطع إخفاء اشمئزازه من هذا الموقف وهو يجد أمامه طه حسين الأستاذ والمفكر والأديب يجلس أمامه ليجيب عن أسئلة سخيفة، وكل ذلك بسبب مقالاته فى نقد رئيس الوزراء إسماعيل صدقى باشا، ورب ضارة نافعة، فقد تسببت المقالات والتحقيقات فى زيادة توزيع المجلة التى كانت تنشر مقالاته. واستمرت الحرب عليه خصوصا عندما كان يصدر صحيفة «الوادى»، وكان هدفهم الضغط عليه بكثرة المخبرين الذين كانوا يقتحمون مكاتب الصحيفة، وكانوا يمنعون باعة الصحف من بيعها، ومع ذلك كان يكتب كل يوم، وتقول زوجته - سوزان - فى هذه السنوات الثلاث عشت مع الخيبة والمرارة وكان إصراراه يزداد على عدم سماع أقل كلمة أو محاولة لمساعدته، كان يعانى من الاكتئاب وكذلك كنت أنا أيضا لولا كلماته التى كان يهمس بها إلى.. أنت معنى حياتى.. سأظل من أجلك وبفضلك.. لو أنك قربى، أذن لوضعت رأسى على كتفك.
فى هذه الوقت أرسل إليه صديقه البروفيسور ماسينيون عرضا للعمل استاذا فى الولايات المتحدة فكان رده: إننى فى بلدى استاذ معزول وممنوع من العمل وواجبى أن أؤلف الكتب وأسعى وراء الرزق، أما فى أمريكا فإننى سأكون أجنبيا ولن يكون علىّ فيها إلا أن أقوم بواجب محدود.. وفى الوقت الذى بلغ به اليأس مداه أرسل إليه وزير التعليم ليعرض عليه منصب مدير مكتب الترجمة بالوزراة ووافق طه حسين لكن الوزير لم ينفذ وعده، وتكررت لقاءات الوزير به دون تنفيذ، وكأن الأمر كان مجرد إعطائه الأمل لانتظار الفرج دون أن يأتى الفرج.
***
و انتهت الأزمة وعاد طه حسين إلى الجامعة بعد ثلاث سنوات ووجد العزاء فى أيام المحنة فى صدور كتابه «على هامش السيرة» وظهور الطبعة الفرنسية من كتاب «الأيام» ولكن فى عام 1948 كان مغضوبا عليه مرة أخرى حتى أن الحكومة قررت استبعاده من عضوية الوفد الرسمى إلى مؤتمر اليونيسكو فى لبنان وكان بحكم العادة هو الذى يرأس الوفد المصرى، ووقت انعقاد المؤتمر كان يقضى إجازة الصيف فى لبنان فلقى ترحيبا يفوق الوصف من رئيس الحكومة والوزراء والقراء والأدباء واحتفلت به الصحافة اللبنانية ودعى لألقاء عدة محاضرات كانت تحتشد بالجمهور ومنحته الحكومة اللبنانية وسام الأرز، ودعته منظمة اليونيسكو لحضور المؤتمر بصفته الشخصية وخصصت له مقعدا على المنصةالرئيسية بينما كان رئيس الوفد الرسمى لمصر يجلس فى القاعة، وكان المشهد ترجمة لعبارة: لا كرامة لنبى فى وطنه.. وفى النهاية لا يصح إلا الصحيح فقد تحقق لـ طه حسين ما يستحقه من تقدير عالمى.. حصل على عشرات الدكتوراه الفخرية.. وترجمت كتبه إلى اللغات الأجنبية.. ودعى لإلقاء محاضرات فى أرقى الجامعات والمحافل العلمية.. ودخل التاريخ.. ولم يعد التاريخ يذكر أسماء من أساءوا إليه إلا مصحوبة باللعنات.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف