برنامج هيلاري كلينتون الأول حافلا بالزيارات إلي مواقع ومدن مختلفة في مصر وشمل لقاءات مع شخصيات وجماعات مصرية من مختلف الانتماءات, وفي ختام الزيارة عبرت سيدة أمريكا الأولي عن انطباعاتها عما رأته بعينيها وما لمسته بنفسها, وكانت كلماتها في الحقيقة شهادات محايدة, بلا تحيز, ولا مجاملة, كافية للرد علي الحملات المشبوهة, التي تثار في الإعلام الأمريكي والأوروبي من حين لآخر لأهداف خبيثة معروفة.
في المحاضرة التي ألقتها بالجامعة الأمريكية قالت هيلاري كلينتون أولا إنها شاهدت في جولاتها في أحياء القاهرة المساجد بجوار الكنائس والمعابد, ولمست بنفسها السماحة بين الأديان في مصر علي الرغم مما حدث من عوارض عام1994, وقالت ثانيا إن الإسلام هو أكثر الديانات انتشارا في الولايات المتحدة, وأن التطرف ليس من خصائص دين معين, ولكنه وارد في جميع الأديان وموجود علي المستوي العالمي, وإن المجتمع المصري بما فيه من أخاء وتكافل يوقف هذا التطرف عند حده ولا يسمح له بأن ينال من النسيج الواحد للمجتمع.
والغريب أن الصحف وشبكات التليفزيون الأمريكية, التي تابعت جولات هيلاري كلينتون في مصر ركزت علي زياراتها للأحياء الشعبية مثل خان الخليلي والمناطق الأثرية في منطقة الهرم والأقصر, ولم تشر إلي حديثها عن التسامح الديني وعدم وجود اضطهاد أو تفرقة بين المصريين علي أساس الدين وعن مظاهر وحدة الشعب المصري, التي لمستها بنفسها, كما لم تشر إلي حديثها عن سماحة الإسلام, وبالرغم من أن هذه التصريحات كانت في حقيقتها رسالة إلي الشعب الأمريكي والرأي العام الأوروبي تحمل الرد علي ما أثارته وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية في الفترة الأخيرة من افتراءات عن اضطهاد الأقباط والتفرقة الدينية وغير ذلك من الأكاذيب في حملاتها المسمومة.
والواقع أن هيلاري كلينتون أصبحت الآن الرمز لتيار بدأ يصعد أخيرا في الولايات المتحدة يدرك خطورة الانحياز ضد العرب والمسلمين دون أسباب معقولة أو مقبولة لمجرد الخضوع أو إرضاء جماعات الضغط الصهيونية أو جماعات التطرف الديني في أمريكا, وهذا التيار وإن كان محدود الحجم إلا أن تأثيره ملحوظ لأن قيادته من الصفوة والشخصيات ذات الثقل والتأثير ويمثل دفاع هيلاري كلينتون عن سماحة الإسلام, ووحدة نسيج الشعب المصري في إطار تعدد الديانات وعدم التفرقة بين المصريين علي أساس الدين أو الجنس أواللون, بالإضافة إلي تصريحها منذ فترة عن حق الشعب الفلسطيني في أن تكون له دولة في مواجهة التيارات الصهيونية, التي آثارت حولها زوبعة من الإرهاب الفكري والسياسي, ولم تتراجع أو تخضع للابتزاز والضغوط, ثم جاءت أيضا شهاداتها عما رأته ولمسته من أحوال المجتمع المصري سواء بالنسبة لنجاح مصر في تنفيذ برنامجها للنهوض الاقتصادي, أو بالنسبة للخيار المصري بالاستثمار في التعليم, خاصة تعليم الفتيات, أو بالنسبة لوضع المرأة في مصر وحصولها علي حقوق متساوية للرجل في العمل والأجر والتأمينات والمكانة الاجتماعية والحقوق السياسية, أو بالنسبة لما يتميز به المجتمع المصري من حرص علي تماسك الأسرة, ورعاية للأطفال, وتمسك بالقيم إلي غير ذلك مما يعتبر انصافا للشعب المصري في مواجهة التشويه المتعمد في الإعلام الأمريكي لكثير من الحقائق عن مصر والمصريين.
وأعتقد أن ما لمسناه من هيلاري كلينتون من الشجاعة وروح العدل والموضوعية يجعلنا نأمل في تنمية هذا الاتجاه للانصاف في المجتمع الأمريكي, الذي ظل لعشرات السنين ساحة مفتوحة لجماعات الضغط الصهيونية وحدها لتقوم بشن حملات منظمة لتسميم عقول الشعب الأمريكي وإثارة كراهيته تجاه مصر والإسلام والعرب, ونحن نقدر شجاعة هيلاري كلينتون, التي لم تكتم كلمة الحق رغم موقعها وحساسية موقفها وإعدادها لحملة انتخابية في نيويورك معقل المنظمات الصهيونية, ورغم ما تلقاه من معارضة وهجوم من هذه المنظمات, كلما قالت كلمة حق عن العرب أو الإسلام أو الفلسطينيين وما لمسناه من شجاعتها نفتقده في كثير من القيادات الأمريكية الذين زاروا مصر, وشاهدوا ما شاهدته هيلاري كلينتون, وعرفوا الحق مثلها ولكنهم لم يعلنوا الحقيقية, كما أعلنتها وكتموا الشهادة خوفا من اللوبي الصهيوني أو التماسا لرضاه ودعمه في الانتخابات.
والدور الآن علي الإعلام العربي. والجماعات العربية في الولايات المتحدة وأوروبا, لاستثمار تصريحات هيلاري كلينتون كشهادة حق من سيدة لها مكانتها, وتحسب لكل كلمة حسابها, وليس لديها ما يدعوها إلي أن تكذب أو تزيف أو تجامل وإن كانت ـ بالطبع ـ قد اكتسبت احترام وحب المصريين والعرب والمسلمين, الذين يعانون الإحساس بالظلم والانحياز في الإعلام الأمريكي.
ويبدو أن السيدة هيلاري كلينتون قد اختارت لنفهسا دور إعلان الحقيقة في مواجهة الجهود, التي تبذلها جماعات ومنظمات قوية في أمريكا لغرس صورة ذهنية مشوهة عن العرب والمسلمين, وقد أشار إلي ذلك البروفيسور جاك شاهين في تقرير نشره في العام الماضي مركز التفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة جورج تاون وقال فيه إن الصور الدعائية والقوالب الذهنية السلبية, التي يجري ترسيخها وتضخيم عيوبها في الإعلام وتصريحات المسئولين الأمريكيين عن العرب والمسلمين يقابلها التقصير من جانب العرب والمسلمين أنفسهم, حتي بلغت تأثيرات هذه الصورة المشوهة من الخطورة حدا يهدد نسيج المجتمع الأمريكي ذاته ويضر المصالح الأمريكية في الداخل والخارج, مما يستدعي مواجهة هذا الخطر والتصدي له علي المستوي الأكاديمي والإعلامي, وأن يكون هذا الموضوع علي جدول أعمال سيدة البيت الأبيض, ويقول هذا التقرير إنه برغم تواضع مساعي الإنقاذ أمام التزايد السرطاني في السنوات الأخيرة لهذه الصورة المشوهة وضياع الأصوات المعارضة لها والمحذرة من خطورتها, وبرغم أن القائمين علي ترويج الزيف والأكاذيب أكثر قوةوإصرارا, وبرغم استخدامهم كل الوسائل المتاحة في أمريكا من إذاعة, وتليفزيون وسينما ومراكز أبحاث, وجماعات وجمعيات ونشرات واتصال مباشر بقادة الرأي.. الخ وبرغم أن الأصوات التي تردد الأكاذيب عن قضايا العرب والإسلام أكثر وأقوي من الأصوات الضعيفة المحدودة, التي تحاول إظهار الحقائق والدفاع عن الموضوعية والانصاف والعدل.. برغم كل ذلك, فإن العمل يجب ألا يتوقف لإعادة الميزان المختل.
ومن أجل الدفاع عن الحقيقة انشيء في واشنطن عام93 مركز التفاهم الإسلامي والمسيحي وهدفه إرساء أرضية مشتركة للفهم والتفاهم بين الإسلام والمسيحية ليعرف كل منهما الآخر معرفة صحيحة بعيدا عن التشويه والادعاء, وإزالة الصورة الذهنية السلبية عن كل دين, ليكون ذلك الأساس لإقامة علاقة سوية بين الأنا و الآخر ويري هذا المركز أن هيلاري كلينتون تقوم بدور في المجتمع الأمريكي يرشحها لتكون سندا لهذا المركز.
وهذه الجهود التي بدأت في أمريكا لإعادة تقديم الإسلام والعرب إلي المجتمع الأمريكي بموضوعية وإزالة آثار العدوان عليها دافعها الأساسي الدفاع عن المصالح الأمريكية, والحرص علي إعادة تقديم صورة أمريكا للعالمين العربي والإسلامي علي أنها تستطيع قيادة العالم بقدر من الإنصاف, وأن الصداقة معها ممكنة, والثقة في العدل الأمريكي أيضا ممكنة.