كل من يكتب الآن يكتب عن التنوير وضرورته, وكل من يتحدث يصنف الناس علي أنهم مع التنوير أو ضده, ويحذرنا من أعداء التنوير وخصومه, ورغم انتشار الدعوة الي التنوير لم نتفق حتي الآن علي معني واحد له, ولم يحذرنا أحد من التنوير الزائف.
البعض يفهم التنوير علي أنه الحضارة الغربية التي أصبحت هي الحضارة الأمريكية ويدعونا الي السير علي هذا الطريق بسرعة وإلا كنا متخلفين, ويري ان هذا هو الطريق الوحيد.. والبعض يري أن التنوير هو ان نفكر بنفس الطريقة ونتبني نفس القيم والمباديء والفلسفات الخاصة بالغرب ابتداء من المأكولات السريعة والمشروبات الأمريكية وبنطلونات الجينز الي.. التسامح.. مع الاعلانات الفاضحة وعلاقات الشذوذ وانتشار المخدرات الي فهم حرية المرأة علي انه حقها في اقامة علاقات قبل الزواج ومعه..
وقد تفرغ الدكتور جلال أمين لدراسة ظاهرة التنوير الزائف في كتاب بديع بهذا العنوان تناول فيه بصراحة وجرأة كشف ما يحيط بالدعوة الي التنوير من الخلط والتشويه, حتي أصبح هناك من يشعر بأننا بعيدون عن التنوير لمجرد أننا مختلفون عن الغرب الي حد الشعور بالعار لأننا مختلفون.. ودليل ذلك الحرص الشديد علي أن يرضي عنا الأجانب, أو الاهتمام الشديد برأي الأجانب فينا, أو حرص المذيعة التليفزيونية علي أن تستجدي من أي أجنبي تقابله أن يمدح مصر ويقول كلمة عن طيبة المصريين, وابراز كلمة قالتها ممثلة أمريكية انحسرت عنها الأضواء فيها مجاملة لمن دعوها وأتاحوا لها رحلة سياحية مجانية واعادوها الي الأضواء.
والتنوير يشير أساسا الي الحركة الفكرية التي ازدهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر رافعة لواء التسامح مع الآراء المخالفة لما هو سائد خاصة فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية, والتحرر من الأغلال المقيدة للفكر والتعبير والتي قد تصل الي حد الارهاب, والتمسك بكل ما قاله القدماء دون مناقشة أو نقد أو اعادة نظر, وارتبطت هذه الحركة باعلاء شأن العقل حتي لو تعارض مع ما يعتبره الناس من المسلمات, واعلاء شأن العلم والموضوعية وعدم الخضوع للأهواء والتحيزات السابقة.. واستخدم نفس التعبير في وصف ماحدث في بعض البلاد العربية بعد قرن من حدوثه في أوروبا ابتداء من رفاعة رافع الطهطاوي في منتصف القرن الماضي حتي نصر حامد ابوزيد في هذه الأيام, مرورا بقاسم أمين, ولطفي السيد, وفرح انطون, وشبلي شميل, وطه حسين, وسلامة موسي, ولويس عوض, وزكي نجيب محمود, وأمثالهم وتلاميذهم.. ولم ينقطع التنوير رغم عدم استخدام اسمه.. وفي السنوات الأخيرة ازداد سخط مفكري التنوير علي الردة الفكرية التي أصابت حياتنا الثقافية والاجتماعية والتي تتمثل في انحسار التسامح مع الآراء والمعتقدات المخالفة, وتكفير المخالفين, والاعتداء علي المفكرين والفنانين, والدعوة الي مصادرة الأعمال الفكرية والفنية, والي فرض قيود متزايدة علي حرية التعبير, وازدياد التمسك بأفكار وأقوال الأقدمين, وانتشار كتب الخرافة والشعوذة.. الي آخر مظاهر هذه الردة الحضارية والثقافية.
والجديد في القضية هو ما يطرحه الدكتور جلال أمين من ضرورة ترشيد مفهوم التنوير ومفهوم حرية الفكر وتستند الي مقال كتبه المفكر الأمريكي المعروف ناعوم تشومسكي بعنوان حدود الفكر الذي يمكن التفكير فيه الذي نشره منذ عشرين عاما وبين فيه ان المناخ الثقافي العام في الولايات المتحدة أصبح خاضعا لوسائل الاعلام ولسيطرة مصالح تروج لفكر معين, والدكتور جلال أمين يري ان ما يحدد موضوع الفكر يشمل اللغة, وطريقة التنشئة في الأسرة, وما يفرضه نظام التعليم والمؤسسات الاجتماعية بما في ذلك الاعلام والمؤسسات الدينية.. بحيث يكون الشك فيما هو سائد في المجتمع من أفكار ومعتقدات مرغوبا في احيان, ولكن هناك حدودا لذلك, لان الشك في كل المسلمات يجعل الحياة مستحيلة, ولايمكن للانسان الاستمرار في الحياة وهو يشك ويعيد التساؤل عن صحة كل خطوة يشرع في اتخاذها.. وعلي هذا فإن حرية التعبير والاعتقاد لها حدود.. والتسامح له حدود.. والتجديد أيضا له حدود.. حق التعبير ليس حق السب وهدم المقدسات, والمثقف العربي هو الذي يجب أن يكون قادرا علي التمييز بين ما يجوز وما لايجوز هدمه..
ويذكرنا الدكتور جلال أمين بالجرائم التي ارتكبت وترتكب ضد الحرية باسم الحرية, وباسم حقوق الانسان, ابتداء من مذابح الثورة الفرنسية حتي الاعتداءات الأمريكية علي شعوب العالم الثالث, مرورا بالفظائع التي ارتكبها ستالين ضد من يخالفونه وكان يعتبرهم أعداء الشعب وفضيحة المكارثية في أمريكا في الخمسينيات التي كانت تهمة الشيوعية الي كل من يشتبه في ضعف ولائه للمؤسسة الحاكمة ومصالح الشركات الكبري, والاضطهاد الذي يلقاه كل من يخالف السياسات الأمريكية والاسرائيلية واتهامه بالأصولية والارهاب.. ويتحدث الدكتور جلال أمين أيضا عن نفاق دعاة الحرية وحقوق الانسان الذين يخفون حقيقة أن مثل هذه الشعارات الجميلة لم تمارس قط دون تحفظ في البلاد التي يتلقون منها الوحي.!
وليس صحيحا أن التنوير يعني الهجوم علي الموقف الديني وكأنه المصدر الوحيد للتعصب والاعتداء علي حريات الآخرين, والخطر الوحيد الذي يهدد التقدم والتسامح والعقلانية.. لان التعصب المرتبط بالفظائع والمآسي له أمثلة في التاريخ العلماني لايقل عما نجده في التاريخ الديني, كما حدث في الثورة الفرنسية التي قامت علي أفكار التنوير نفسها, وما فعله الأوروبيون في مستعمراتهم من وحشية باسم المدنية والتنويروما شهده القرن العشرون من اعتداءات وحروب باسم الديمقراطية, وما عاناه مسلمو البوسنة والشيشان وفلسطين..الخ.
كذلك فإن معتقدات العلماني مليئة بالغيبيات, كالايمان بحتمية التقدم, أو بأنه من الممكن للانسان الوصول الي الكمال, أو بأن العلم سيكشف للانسان كل ما هو مجهول ويحقق له السيطرة التامة علي الطبيعة, أو الايمان بالمساواة وبالناس ولدوا متساوين, أو بأن انتصار الاشتراكية حتمي, أو بان الرأسمالية هي أفضل النظم, أو بأنها نهاية التاريخ.. الي آخر هذه القائمة من غيبيات الفكر العلماني, ومثل هذا التعصب العلماني كثيرا ما يفسد العلم ويعاديه مثلما يفعل التعصب الديني وأكثر.. فالاعتقاد الديني والايمان بالغيبيات الدينية لايؤدي بالضرورة الي معاداة العلم, كما ان الاعتقاد الديني لايحول العالم الي جاهل ورفض الدين لا يجعل الجاهل عالما.. فقد كان نيوتن مؤمنا ايمانا قويا بالله وحقق انتصاراته العلمية, بينما كان ستالين غير مؤمن وأساء الي الانسانية وزيف التاريخ.. فالتنوير والعلم لا يتعارضان مع المعتقدات الدينية أبدا
وهكذا يدعونا الدكتور جلال أمين الي اعادة التفكير في بعض ما يطرحه دعاة التنوير علي أنه الطريق الوحيد, لكي نصل الي مفهوم واضح, ومتوازن, يكون دافعا للتقدم من ناحية, ومحافظا علي الهوية القومية والروح الدينية والقيم والشخصية المميزة.. لان التنوير بالمعني الغربي يجب ألا يكون مبررا للدعوة الي التخلي عن كل تراثنا الثقافي واعتناق كل ما هو غربي, والذوبان في الغرب لمجرد انه متقدم علميا وتكنولوجيا, بدلا من البحث عن كيفية تحقيق تقدم مماثل للغرب في العلم والتكنولوجيا دون فقدان الشخصية القومية..
والقضية مرتبطة بشكل ما بما يطرحه الغرب الآن عن صراع الحضارات, وملخصه ان هذا الصراع يجب أن ينتهي بانتصار حضارة وسحق الحضارات الأخري, وسيادة مباديء وقيم الحضارة المنتصرة علي العالم, ليكون ذلك هو الحماية الفكرية والثقافية للعولمة بمعناها الاقتصادي, وهو المعني الذي يهم الغرب الآن, لكي يجعل العالم كله سوقا مفتوحة لمنتجاته, ويقطع الطريق علي الدول النامية لكي يعوق تقدمها, لكي يبقي الرخاء والرفاهية ومستوي المعيشة المرتفع في الغرب علي حساب فقر ونزح ثروة الدول النامية.
وهكذا نري ان قضية الذات القومية, وقضية الوطنية بأبعادها السياسية, والاقتصادية, والثقافية, والروحية, مرتبطة, ومتكاملة, وحمايتها هو الواجب الأول والوحيد للمثقفين المخلصين.