الحلم المصرى يتحقق الآن

الحلم الأمريكي يتلخص في القوة والثراء والحرية‏,‏ وهوحلم يترسب في أعماق الشخصية الأمريكية‏,‏ ويمثل أهم دوافع السلوك للمواطن وللدولة أيضا‏..‏والحلم الأفريقي يتلخص في التحرر من الفقر والعبودية والاستغلال‏..‏ وهكذا لو بحثنا سنجد لكل شعب حلما يعيش عليه ويتوقف نجاحه في تحقيقه علي مدي نجاحه في تعبئة شعور كل مواطن للعمل من أجله‏..‏ فما هو الحلم المصري ومتي نحققه؟

هذا السؤال يردده المثقفون منذ عشرات السنين‏..‏ وقد رأوا في بعض الأحيان مشاهد تعبر عن هذا الحلم مثل جلاء الاستعمار البريطاني‏,‏وبناء السد العالي‏,‏ وتأميم القناة‏..‏ وانتصار أكتوبر‏..‏ إلخ

فالحلم المصري يتمثل في استقلال الارادة الوطنية‏,‏وبناء مجتمع القوة والوفرة‏,‏ والوصول الي سلام حقيقي‏,‏وتحقيق وحدة عربية‏,‏ والحفاظ علي الهوية الثقافية والروحية‏..‏ وحجر الزاوية في هذا الحلم هو الاستقلال الاقتصادي‏..‏ الخروج من عنق الزجاجة الي الأرض الواسعة التي وهبها الله لنا وظلت مقفرة علي مر القرون‏..‏

وربما كان السر وراء الانفعال الشديد لطوائف المثقفين ورجال السياسة والأحزاب والفنانين‏,‏ عندما صحبوا الرئيس مبارك في جولته في أرض توشكي‏,‏ هو أنهم وجدوا أمامهم الحلم المصري مجسما‏,‏ ليس بالكلام والتمنيات ولكن بالعمل وبالفعل وبالانجاز‏..‏ ولأنهم أدركوا ـ بالاقتراب والملامسة ـ ان مشروع توشكي ليس مجرد مشروع لاستصلاح أرض صحراوية مهما بلغت مساحتها‏,‏ ولكنه أكبر من ذلك بكثير‏..‏ فهو مشروع لبناء مصر جديدة‏..‏ مساحة العمران فيهاأكبر مما هي عليه منذ آلاف السنين بأكثر من الربع‏..‏ ومع توشكي هناك مشروع تعمير سيناء كلها وهو المشروع الذي ظللنا نسمع عنه ونصفق له منذ كنا أطفالا وقضينا عشرات السنين نسمع ونصفق ولا يتحقق شيء الي أن رأينا سيناء تتغير‏..‏ طرق‏..‏ ومبان‏..‏ ومدن‏..‏ ومصانع‏..‏ وقناة تسير تحت القناة وتحمل ماء النيل لتروي أرضا لم تلامس ماء النيل ابدا منذخلق الله الأرض وما عليها‏..‏ والعمران يمتد الي الصحراء الغربية‏..‏ وبكل ما يتم انجازه من شق الطرق وبناء المطارات واقامة المدن والمصانع تتسع أمام الأجيال الجديدة آفاق الأمل في حياة أفضل‏..‏

كان انفعال الوفود التي صحبها الرئيس معه يفوق الوصف حيث شاهد الجميع بأعينهم حجم العمل الهائل‏,‏ورأوا أرض مخضرة بزراعات تؤكد جودة الأرض وحماس العاملين فيها وترسم في قلب الصحراء الواسعة كلمة النجاح باللون الأخضر‏..‏ أدرك الجميع ـ ربما لأول مرة ـ انهم أمام مشروع حضاري كبير‏..‏ أكبر من عملية استصلاح أرض صحراوية‏..‏ ورأوا كيف يسير العمل بجدية وبقوة لم يسبق لها مثيل‏..‏ واطلعوا علي صور الاقمار الصناعية التي تكشف بدقة عن طبيعة الأرض وما في باطن الأرض من مياه جوفية وثروات معدنية‏..‏ وعايشوا الأبطال ذوي الوجوه السمراء من المهندسين والخبراء والعمال وهم يعملون تحت الشمس بحماس وبروح معنوية عالية وكأنهم في معركة حقيقية‏..‏ وهذه المرة تدور المعركة للعبور من الضيق الي السعة‏..‏ من التخلف الي التقدم‏..‏ من الفرض المحدده الي الفرض الأكبر‏..‏

لكن هذه الزيارة أظهرت في الوقت نفسه اننا جميعا قصرنا في حق هذا المشروع ولم نتعامل معه بالأسلوب الذي يناسبه وفي الاطار السياسي له‏..‏ وشارك في هذا التقصير الحكومة‏,‏ والأحزاب‏,‏ والاعلام‏.‏

فقد اكتفي المسئولون بالادلاء ببضع تصريحات متعجلة‏,‏ تضمنت بعض أرقام صماء‏,‏ وتاهت كلها في زحام التصريحات والأرقام التي تتوالي علي الناس كل يوم‏,‏ فأصبح هذا المشروع الحضاري الكبير الذي يتوقف عليه مستقبل مصر والمصريين وكأنه واحد من عشرات المشروعات الأخري لا أكثر‏..‏

ومثل هذا المشروع يحتاج الي حشد شعبي‏,‏ والي تعبئة الشعور العام‏,‏ والي العمل اليومي لتعميق الاحساس لدي كل مواطن بان له مصلحة مباشرة فيه هو وأبناؤه‏..‏ وانه تجسيد للحلم المصري بما يحققه من استقلال الارادة الوطنية‏,‏ والاستقلال‏,‏ وزيادة الموارد‏,‏ وافساح المجال الحيوي للمصريين‏,‏ وفتح مجالات للعمل لتحقيق الطموح بالنسبة للشباب‏.‏

كان لابد من تجسيد هذا المشروع كمشروع قومي كبير وليس مشروعا من مشروعات وزارة الري أو وزارة الزراعة كسائر المشروعات الأخري‏..‏ وانهأكبر من أي وزارة‏..‏ وأكبر من الحكومة أيضا‏..‏ لانه مشروع الشعب المصري كله بكل أفراده وكل فئاته وكل أحزابه السياسية‏..‏ ولذلك يجب أن يكون من حق كل مواطن أن يتابع ما يجري فيه متابعة يومية ويتقصي أخباره ويجد اجابة علي كل سؤال يخطر بباله وفرصة لزيارته ومتابعته علي الطبيعة‏,‏ والتعرف علي كل واحد من الرواد العاملين في هذا المشروع الذين تحملوا قسوة العمل في صحراء بلا أي امكانات في البداية وصنعوا بأيديهم كل شيء بعد ذلك حتي أصبحت لهم معسكرات ومساكن وعيادات وملاعب ومزارع وطرق وتليفونات‏..‏ الخ‏..‏ وهل كل هذه الانجازات أمور بسيطة وهي تتم في منطقة بعيدة عن العمران ولم يسبق لأحد أن رآها من قبل‏..‏؟

كان لابد أن يكون في يد كل تلميذ كتاب عن توشكي يشرح كل تفاصيل المشروع ويكون موضوعا من موضوعات الدراسة يسأل فيه ويعرف وينفعل ويعد نفسه للحياة في مصر الجديدة الممتدة جنوبا وشمالا وشرقا وغربا‏..‏ وكان لابد أن يعقد لقاء لكل الأحزاب ـ أغلبية واقلية ـ لتفهم المشروع والتوصل الي اتفاق عام علي انه مشروع استراتيجي‏..‏ وقومي‏..‏ ومستقبلي‏..‏ وبالتالي يجب ان يكون بعيدا عن المناورات الحزبية والمزايدات‏..‏ مع حق كل صاحب رأي أن يعلن رأيه دون ان يسعي الي هدم الحلم أو اطفاء الأنوار التي بدأت تضيء طريق الاجيال الجديدة‏..‏ وكان يجب ان يعقد مؤتمر للمسئولين في كل الوزارات علي مستوي التنفيذ مع وزرائهم لاعداد خطة عمل مشتركة بحيث يكون لكل وزارة دور‏..‏ ومن الغريب ـ مثلا ـ أن وزارة الثقافة لم تفكر في انشاء معسكر صغير للفنانين والمبدعين ليعيشوا هذه الملحمة منذ بدايتها ويسجلوها في لوحات ومسرحيات وقصص‏..‏ لان الانتظار الي أن يكتمل المشروع لن يكون مجديا حيث ستكون الأرض خضراء والمدن قائمة والناس يتحركون والصورة لاتعكس المعاناة والنضال من أجل الوصول الي هذه النهاية‏..‏ ومن الغريب أيضا ان وزارة التنمية الريفية لم تفكر في تنظيم رحلات لشباب الفلاحين ليرتبط وجدانهم بهذه المنطقة التي مازالت صورتها في أذهانهم علي انها نائية وبعيدة بينما ستكون هي أرض المستقبل لهم‏..‏ ومن الغريب ان وزارة الاسكان لم تنظم حلقة دراسية علمية في الوقع لكل أساتذة وخبراء تخطيط المدن لبحث النموذج الأنسب للبيت والقرية والمدينة في توشكي واكتفت بما يعمله موظفوها‏..‏ ومن الغريب ان المجلس الأعلي للثقافة لم يعلن عن مسابقة في الشعر والقصة والرواية والمسرحية عن روح المستقبل في توشكي‏..‏ وهكذا يمكن أن تعيش مصر بوجدان شبابها وشيوخها سياسيا وثقافيا واعلاميا مع هذا الحلم الكبير وهو يتحقق يوما بعد يوم أمام عيونهم‏.‏

واذا كان الحلم المصري يشمل أن يتلك كل مصري قطعة أرض من أرض مصر‏..‏ فلماذا لا نفكر في انشاء شركة لاستصلاح مساحة‏100‏ ألف فدان مثلا ويمكن تمويلها بتطوير مشروع بنك ناصر الذي بدأ في جمع الزكاة والتبرعات لاستصلاح‏10‏ آلاف فدان لتوزيعها بواقع فدانين وبيت وبقرة لخمسة آلاف أسرة من الفلاحين المعدمين‏..‏ ولو جعلنا هذه الفكرة مشروعا قوميا كبيرا وتوسعنا في تمويل المشروع برسوم صغيرة أو طوابع بقروش علي بعض الخدمات فقد نتمكن من تحويل‏50‏ ألف أسرة من فلاحين معدمين الي فلاحين ملاك‏..‏ ففي هذه الأرض من حقنا أن نحقق كل الأحلام لكل المصريين‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف