توشكى و المناورات الحزبية
كنت أتمني أن يكون موقف الأحزاب وكتابها وصحفها من مشروع قومي كبير مثل توشكي موقفا وطنيا يرعي صالح الوطن والشعب ولا يخضع للمناورات الحزبية أو النظرة الشخصية الضيقة.. وكنت أظن انه لن يظهر من يلقي الاتهامات جزافا وهو يعلم الحق ويخفيه, أو يجهل الحق ولايبحث عنه, بدافع الاثارة والبحث عن الشهرة.. وكنت ومازلت اعتقد ان المشروعات الاستراتيجية والمصالح العليا للوطن يجب أن تكون بمنأي عن المصالح والأطماع والمناورات..
وكنت أتصور أن من يفكر باخلاص لمصلحة الوطن, ويطلع علي الدراسات الاقتصادية والفنية التي أجريت علي المشروع علي امتداد عشرين عاما وشارك فيها علماء مصريون عالميون ومؤسسات علمية دولية.. ستجعل كل المخلصين يلتفون حول هذا المشروع كما التفوا حول مشروع السد العالي.. ومشروع توشكي أكبر من مشروع السد العالي وأشد تأثيرا في حياة مصر ومستقبل شعبها.
وتصورت انه تكفي نظرة ولو غير متخصصة وغير مدققة علي المشروع لادراك انه تعبير عن الوعي بأهمية التغيير.. وقد تحدث الجميع عن التغيير.. ولكن البعض ـ كالعادة ـ فهم التغيير فهما جزئيا وسطحيا وحصره في تغيير الأشخاص بينما التغيير الحقيقي هو تغيير في العقلية.. تغيير في فلسفة العمل.. تغيير في رؤية المستقبل.. وايمان بالقدرة علي صناعة المستقبل بأيدينا لتكون مصر غدا غير مصر اليوم والأمس.. وطنا أوسع.. وأقوي.. وأكبر.. وأكثر وفرة في انتاج الغذاء وقدرة علي تصديره.. وأكثر أمنا وعمقا.. وفيها مكان سكن وفرصة عمل لكل أبنائها الذين سيصل عددهم الي85 مليونا في عام2017 ولن يجدوا موضعا لقدم اذا بقيت مساحة الأرض المسكونة كما هي في حدود5% من مساحة مصر.. ولذلك كان الطبيعي أن يرحب كل مصري بمشروع توشكي الذي سيضيف مساحة من الرقعة الزراعية المسكونة تساوي25% من مساحة مصر الحالية, ويستوعب7 ملايين مواطن مكدسين في الشريط الضيق حول النيل والدلتا.
وكان المفروض الا يحتاج أحد الي من يدافع عنضرورة مشروع توشكي الي جانب مشروع استصلاح وتعمير سيناء باعتبارهما من الأهداف القومية الاستراتيجية التي يجب السير فيها مهما كانت الصعوبات والتحديات.. ولو كنا سمعنا نعيق الضفادع التي تسمم الأجواء الآن عندما قامت ـ هي ذاتها ـ باثارة الشكوك حول تأميم قناة السويس ماكانت القناة قد عادت الي مصر مع ما دفعناه من دماء وشهداء.. وما كان السد العالي قد اقيم مع ما تحملناه من ثمن مادي وسياسي.. وهكذا.. ليس هناك مشروع قومي كبير إلا وله ثمن.. ويفرض علينا دخول معارك ومواجهة تحديات ومشاكل.. ولو وقفنا باكين ويائسين فلن نتقدم الي الأمام خطوة واحدة, وسنظل نؤثر السلامة بالسكوت والجمود..
وليس كل من يتحدث عن توشكي لديه القدرة علي استيعاب المبررات الاستراتيجية والسياسية والدراسات الفنية التي أجريت عن جدواه.. أو لديه الاستعداد لاستيعاب الطموح القومي الذي كان دافعا الي خوض هذه المعركة الصعبة للعبور بمصر من الوادي الضيق الي الصحراء الواسعة التي وهبها لها الله ولم يفكر أحد من قبل في تحويلها من أرض مهجورة الي أرض مسكونة وعامرة بالبشر والمدن والقري والمدارس والمزارع.. قد يكون لدي البعض قصر نظر يجعله لايري إلا ما هو قريب علي مدي بصره العليل.. وقد يكون البعض فاقد البصيرة غير قادر علي استيعاب الرؤية المستقبلية.. وقد يكون ممن يؤمنون بترك المستقبل ليأتي بغير تصور ولا عمل مسبق.. ولا يدركون ان العالم الآن يؤمن بصناعة المستقبل وبالخيارات الصعبة التي تبدو مستحيلة.. لان القدرة علي تحويل المستحيل الي ممكن ليست لدي كل الناس.. ولكنها فقط لدي صانعي التاريخ وحدهم.. أما بعض الناس فليست لديهم القدرة علي تغيير عقولهم وافكارهم ليفهموا ويواكبوا حركات التغيير الكبري.. انهم ينظرون الي أعمال غير تقليدية بذات المنهج التقليدي والمنطق القديم وما اعتادوا عليه مما كان عليه فكر آبائهم وسادتهم من بقايا الماضي.. وحتي بعض الذين تحدثوا كثيرا عن ضرورة وجود مشروع قومي يحشد له الشعب قواه ويمثل معركة لبناء المستقبل.. حتي هؤلاء لم يدركوا قيمة واهمية مشروع توشكي.. ومازالوا يتحدثون عن ضرورة وجود مشروع قومي.. واذا لم يكن هذا هو المشروع القومي فماذا يمكن أن يكون..؟ وهؤلاء بدلا من أن يقوموا بدورهم في المشروع ـ علي الأقل ـ بفهمه ودراسته وحشد الشعور القومي حوله, فانهم يرددون نفس الكلام الذي كانوا يقولونه قبل توشكي.. مع ان هذا المشروع يمثل حدا فاصلا بين فكر التنمية قبله وبعده.. وصفحة جديدة في تاريخ وبناء مصر.. ونقطة تحول تغيرالجغرافيا الاقتصادية, والسياسية, والبشرية, والطبيعية لمصر.. وبعد استكماله ستكون لمصر خرائط جديدة.. وستكون الاجيال الجديدة في حاجة الي اعادة وصف مصر..
ولا أحد يدعي ان مشروع توشكي مشروع سهل.. انه مشروع كبير جدا.. وفيه مشاكل وتحديات وصعوبات.. سواء في ظروف العمل.. أو التمويل.. أو طبيعة المناخ.. ولكن: هل يدفعنا ذلك الي الوقوف عاجزين أم يدفعنا الي وضع حلول جديدة وابتكار وسائل غير تقليدية للعمل والتعامل معها.. ولماذا لايفهم المشككون ان اسرائيل تعمل علي استصلاح صحراء النقب وهي صحراء شديدة الحرارة ليس فيها ماء.. وأرضها شديدة الملوحة.. ومصنفة من الدرجة الخامسة من حيث الصلاحية للاستزراع وبعضها مناطق غير صالحة للزراعة.. وليس فيها ـ طبعا ـ ماء النيل أو الخزان الجوفي كما في توشكي... ومع ذلك فإن اسرائيل تحشد علماءها وعمالها وهناك اجماع من كل القوي السياسية علي تنفيذ المشروع المستحيل.. ولم يظهر من يشكك أو يتهم هذا المشروع الذي لايعتمد علي عوامل ايجابية مشجعة سوي الرغبة في توسيع أرض اسرائيل..
أما خبراء المقاهي وجنرالات الشوارع عندنا فانهم يصدرون الفتاوي من منازلهم ويقولون ان أرض توشكي غير صالحة للزراعة.. مع ان آخر دراسة لمركز البحوث الزراعية التي أجراها60 خبيرا من حملة الدكتوراه وصلت الي أن الأراضي الصالحة للزراعة تصل الي2,3 مليون فدان, والأراضي غير الصالحة مساحتها100 ألف فدان ترتفع فيها الملوحة وتحتاج الي الصرف والغسيل مستقبلا.. فهل نترك2,3 مليون فدان صالحة بسبب وجود100 ألف فدان غير صالحة اليوم وستكون صالحة غدا بمعالجة خاصة..
يبدو ان الحوار مع أعداء توشكي سوف يطول الي أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.. وتظهر حقيقة النيات.. وربما يقتنع هؤلاء وينضمون الي صف العاملين المجاهدين.. فهذا هو الجهاد الحقيقي.. الجهاد الأكبر.. من أجل خير البلاد والعباد.