على هامش المبايعة

خلال الأيام الماضية تفجرت في المصريين طاقات‏,‏ ومشاعر شملت كل شرائح المجتمع‏..‏ ظهرت في ساحة المؤسسات الدستورية والتشريعية‏..‏ وظهرت في ساحة العمل السياسي والحزبي بلا فارق بين حزب مؤيد وحزب معارض‏..‏ كما ظهرت في ساحة المثقفين والمفكرين وقادة الرأي‏..‏ حتي يمكن القول ان ثمة انتفاضة شعبية تعم ارجاء البلد‏,‏ وتردد نفس الافكار والمواقف التي تعبر عنها الصفوة والنخبة السياسية والفكرية‏.‏
وكل ما قيل في تفسير هذه الروح الشعبية الاجماعية صحيح بانها تقدير للانجازات التي حققها مبارك في معركة الحرب أو معركة السلام‏,‏ أو معركة الاصلاح‏,‏ أو معركة بناء ما افسدته سنوات الحروب بالتضحيات التي فرضت علينا إلي ان ارتفع علم مصر‏,‏ وارتفعت هامات المصريين عند آخر نقطة علي الحدود المصرية عادت إلي السيادة المصرية‏.‏
وقائمة الانجازات‏,‏ بالارقام‏,‏ والحقائق‏,‏ يعجز الانسان عن حصرها وتذكرها‏,‏ ولكنها قائمة وملموسة في الحياة اليومية لكل مواطن‏,‏ وهناك كتب ضخمة تضم ما امكن حصره من هذه الانجازات التي تمت خلال‏18‏ عاما‏.‏ ولكن هناك انجازات أخري غير مادية‏,‏ وهي القوة الحقيقية المحركة والدافعة لكتائب العمل التي قادها مبارك وحققت كل هذه الانجازات المادية‏..‏
وأول انجاز لمبارك ـ في رأيي ـ هو حرصه علي اعادة الروح إلي مصر وإلي المصريين‏..‏ وكانت اشارة البدء في اللحظات الأولي لحكمه بالغة الدلالة حين فتح السجون‏,‏ وافرج عن رموز الفكر وقيادات العمل الوطني‏,‏ وفتح لهم القصر الجمهوري‏,‏ وجلس بينهم في جلسة تكريم‏.‏ وكانت هذه هي ساعة الصفر لمعركة طويلة خاضها مبارك بنفس الشجاعة التي قاد بها ضربة الطيران التي كانت مقدمة النصر في حرب أكتوبر‏.‏
كانت عودة الرموز والقيادات من السجن إلي القصر الجمهوري في حقيقتها عودة الروح لمصر وللمصريين‏..‏ وكانت عبورا تاريخيا من عهد إلي عهد جديد‏..‏ ومن عصر إلي عصر‏..‏ كانت عبورا حقيقيا بالمعني الدقيق للعبور كما عرفناه في حرب أكتوبر‏..‏ كانت عبورا لحاجز من المخاوف والشكوك‏..‏ وكانت اقتحاما لحصون من القلق والتردد‏..‏ وكانت هزيمة لروح الهزيمة‏,‏ واحياء لروح المبادرة والمشاركة واستعادة الاحساس بالمسئولية الوطنية الجماعية‏..‏ وكانت اعلانا‏,‏ أو عقدا اجتماعيا جديدا يقوم علي ان كل مصري وطني‏,‏ وبالتالي فإن له الحق في المشاركة بالرأي والمشاركة في القرار‏..‏ وله الحق في الاختلاف دون ان تلاحقه المطاردة بالاتهامات والتشكيك في نواياه واخلاصه‏.‏
وبعد ذلك جاءت عودة الروح لمصر والمصريين بالمعني الايجابي‏..‏ روح العمل‏..‏ والجدية‏..‏ وروح الانجاز والاصلاح‏..‏
وبفضل شخصية مبارك الواقعية‏,‏ الرافضة للحياة في الاوهام واحلام اليقظة‏,‏ والمترفعة عن استخدام المخدرات السياسية للشعب بتزييف الواقع وخلق صورة زائغة لانتصارات وانجازات لم تحدث‏..‏ بفضل شخصية مبارك تعمقت في المجتمع المصري روح الواقعية‏,‏ وبدأت ظواهر جديدة لم تعرفها الحياة السياسية في مصر‏..‏ مثل الاعتراف بوجود ما في الواقع من سلبيات‏,‏ وفساد‏,‏ واخطاء‏,‏ رفضها‏,‏ واعلان الحرب عليها‏,‏ ودعوة المواطنين إلي مقاومة هذه السلبيات وعدم الاستسلام لها أو التسامح معها‏.‏
ومن هذا المنطلق كان ممكنا بعد عودة الروح‏,‏ ان تتحقق عودة العقل المصري إلي مكانة الطبيعي‏,‏ في موقع القيادة‏,‏ بمعني عودة المقدرة علي الادراك الصحيح للامور‏,‏ ورؤية كل موقف بحجمه الحقيقي‏,‏ وبعيون سليمة لاتري الاشياء أكبر أو اصغر من حجمها‏,‏ وبعقول ناضجة لاتنساق وراء الانفعالات‏..‏ وبادراك واع لمدي القدرة والتمييز بين الممكن والمستحيل‏,‏ وبلا ادعاء بالقدرة علي تحقيق المستحيل‏,‏ أو مناطحة من يصعب تحمل نتائج التحدي معهم‏,‏ وبالنجاح بذكاء في ايجاد صيغة للتعايش مع الدول الكبري‏..‏ قائمة علي الاحترام المتبادل‏,‏ والاعتراف المتبادل بالحقوق‏,‏ ومنها الحق في الاختلاف دون ان يفسد الاختلاف مساحة الاتفاق القائمة‏..‏ وهذه الروح هي التي جنبت البلاد الدخول في مغامرات عنترية غير محسوبة لمجرد اكتساب شعبية وقتية سرعان ماتتبدد عندما تتضح الحقائق وتظهر النتائج‏..‏ وهذه الروح الجديدة هي التي جعلت السفينة قادرة علي السير بامان في اوقات صعبة‏,‏ وهذه الروح هي التي ادت إلي ما نلاحظه ويلاحظه المراقبون من ان قرارات ومواقف مبارك السياسيةكانت كلها صائبة وصحيحة وحققت المصلحة لمصر وللعرب‏.‏
وعودة الروح شملت أيضا عودة الروح إلي الفكر‏..‏ حيث أصبح مسموحا بحرية التفكير‏,‏ وحرية التعبير‏,‏ وتحققت المصالحة بين النظام وبين المفكرين والمثقفين‏,‏ وعادوا إلي مكانهم الطبيعي في الصفوف الأولي‏..‏ يلتقي بهم القائد‏..‏ ويستمع اليهم‏..‏ ويشاورهم في الأمر‏..‏ ويعرض عليهم فكره‏..‏ ويتبادل معهم الحوار بلا حواجز ولا شكليات‏.‏
ومن هنا نقول ان شرعية النظام في حكم مبارك قامت علي قبول الشعب‏,‏ وتجاوبه معه‏,‏ واحساس الرأي العام بأن هذا النظام يمثله‏,‏ ويعبر عنه‏,‏ ويعمل من أجل مصالح الشعب كله بكل فئاته وطوائفه‏,‏ وليس من أجل مصالح فئة‏,‏ أو طبقة واحدة‏..‏ وان انحياز هذا النظام للضعفاء‏,‏ والفقراء‏,‏ والمحتاجين‏,‏ أكبر من انحيازه للاغنياء‏,‏ والاقوياء‏,‏ واصحاب الجاه‏,‏ وشعاره‏:‏ القوي فيكم ضعيف حتي آخذ الحق منه‏,‏ والضعيف فيكم قوي حتي آخذ الحق له‏.‏
هذه الشرعية تغلغلت في الضمير العام باقتراب نظام الحكم من الناس واقتراب الناس منه‏,‏ وعندما لمس المواطن العادي ان ثمار العمل الوطني يناله منها نصيب‏..‏ وان له مكان في مجتمعه‏..‏ وانه ليس محروما‏..‏ أو معزولا‏..‏ أو مهمشا لاي سبب من الاسباب‏..‏ وان هذا المجتمع ليست فيه تفرقه بين اغلبية واقلية‏..‏ أو بين مؤيدين ومعارضين‏..‏ أو بين رجال ونساء‏..‏ فهذا مجتمع كل المصريين بلا استثناء‏.‏
وهذه الشرعية هي التي عبرت عن نفسها في اللحظة التي طرح فيها سؤال حول استمرار مبارك لفترة رئاسة جديدة‏,‏ فجاءت الاجابة تلقائية‏,‏ وكأنها بديهية من البديهيات‏,‏ أو كأنها اختيار لادخل للبشر فيه‏,‏ وكأن مبارك وشعب مصر علي موعد مع القدر ليسيرا معا في طريق الاصلاح الشامل والسلام والتنمية والرخاء إلي ان يتحقق الوصول إلي هذه الأهداف كاملة‏.‏
وهذه الشرعية هي التي جعلت احزاب المعارضة تعارض كل شيء‏,‏ ولكنها تتفق مع التيار الشعبي العام مع مبارك‏,‏ بحيث أصبح مبارك مرشح كل الاحزاب وليس مرشح حزب بعينه‏,‏ وهذا شيء نادر الحدوث‏,‏ ولكنه شيء منطقي بالنسبة لمبارك‏..‏ فهذا الاجماع ليس فقط تكريما واعترافا‏,‏ ولكنه أيضا تكليف‏,‏ وتعبير عن ضرورة سياسية‏,‏ لان هذه المرحلة بالذات لايمكن اجتيازها الا بحكمة وحنكة ودأب وصلابة مبارك التي تجلت في كل أعماله في سنوات حكمه‏.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف