قضيـــة جمال البنـــا

رحل جمال البنا فى هدوء كما عاش فى هدوء فى بيت متواضع فى شارع مزدحم من شوارع القاهرة القديمة بين آلاف الكتب، منقطعاً للفكر والتأليف وترك لنا أكثر من مائة كتاب ومئات المقالات. ومع الهدوء الذى عاش فيه كان يثير الزوابع حوله لجرأة الآراء التى كان يطرحها للنقاش، وكانت بعض آرائه تصدم أصحاب الفكر التقليدى والمتشددين الذين ضيقوا على أنفسهم ويريدون أن يضّيقوا على الناس ويضعوا على عقولهم أقفالاً تمنعهم من حقهم فى إعادة النظر فى الأفكار التى توارثوها جيلاً بعد جيل ويفرضونها على الناس.
كانت معركته الكبرى كمفكر إسلامى محاربة الجمود والتشدد والدعوة إلى تجديد المفاهيم وأحكام الفقه مع التغير الكبير فى حياة الناس ومعلوماتهم وفى أوضاع العالم وعلاقاته، وظل يدعو إلى أن يعيش المسلمون فى هذا العصر وليس فى العصور الماضية، فقد اجتهد المسلمون منذ مئات السنين ومن حق الأجيال التالية أن تجتهد هى أيضاً ولا تُحرم من نعمة العقل وإرادة التجديد.
وجمال البنا هو الأخ الأصغر للإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين مد الله فى عمره حتى بلغ 93 عاماً وهو بكامل اللياقة البدنية والعقلية.
اندمج فى العمل العام فى الفترة الأولى من عمره فى البداية كان منخرطاً فى جماعة الإخوان المسلمين، وفى المرحلة الثانية شارك فى نشاط التنظيمات العمالية، وفى المرحلة الأخيرة عكف فى بيته على القراءة والبحث والتأليف، واكتفى بأن يتواصل مع أصدقائه عبر الهاتف والطريف أن البعض كان يعتقد أن بينى وبين جمال البنا صلة قرابة، وكان يشرفنى ذلك بالطبع، ولكن المسألة كانت تشابه أسماء، وإن كان هو قد ولد فى مدينة المحمودية إحدى مدن محافظة البحيرة وأنا ولدت فى مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة، وكان ذلك موضوعاً لتعليقاتنا الضاحكة كلما تحدثنا عبر التليفون لأشكره على إهدائه أحد كتبه لى أو لأناقش معه بعض الافكار فى كتبه ومقالاته، وكنت سعيداً بهذه الصلة، صلة الفكر والحوار وفيها الكثير من الاتفاق والاختلاف، ولم يفسد الخلاف للود قضية أبداً.
***
كانت قضيته الاساسية هى «الحرية»حتى إنه ألّف كتاباً بعنوان «مطلبنا نحن الإسلاميين.. الحرية» وكانت دعوته إلى الفرق والجماعات الإسلامية أن تتبنى مبدأ «الحرية» فى التفكير والعمل والسلوك وسيجدون أن الحرية لصالحهم، لأن المجتمع الذى يؤمن بالحرية هو الذى يوفر المناخ الآمن للإسلاميين وغيرهم ليعلن كل فريق آراءه ويجد الحماية من الاضطهاد والاتهامات الظالمة ومن المطاردات المعتادة من أعداء الحرية وزبانية الإستبداد، وكان يدعو الإسلاميين إلى أن يعملوا وفقاً لمبدأ إيجابى يبنى الحضارات ويحقق التقدم فى جميع المجالات هو «الحرية لى ولكل إنسان دون إستثناء». الحرية لمن يصدق ومن يكذبّ. ولمن يؤمن ومن لا يؤمن. وفى مناخ الحرية يدور حوار ـ أو صراع ـ الافكار، وتنتصر الفكرة الصائبة دائماً وتنهزم الفكرة الضالة والمضللة. الحرية ـ كما كان يرى ـ هى التى تحمى ممارسات الإسلاميين من الشطط، ومن النظرة الأحادية ومن أخطاء التطبيق ، الحرية هى التى تلقى الأضواء الكاشفه على الأخطاء والخطايا بما يسمح بالمراجعة والتصحيح فالناس كما جاء فى الحديث القدسى « كلكم خطاءون وخير الخطائين التوابون». الحرية تؤدى إلى تفعيل العقل للتواصل إلى القرارات والمواقف السليمة، وبدونها تسيطر الخرافة أو يستبد الحاكم دون أن يجد من يواجهه، وفى النهاية فإن الحرية هى «القيمة» التى يحتاج الشعب المصرى إلى التمسك بها شعوب أخرى تقدمت وسادت بفضل شعور أفرادها بانهم احرار.
***
هذه هى قضية جمال البنا الحرية.. حرية كل إنسان فى الإيمان بما يشاء من آراء وافكار وعقائد، وأى تقييد لهذه الحرية هو عدوان على إنسانية الإنسان الذى خلقه الله ومنحه العقل وحرية الإختيار والحق فى الاختلاف والله وحده هو الذى يحكم بين المختلفين كما أخبرنا الله فى كتابه. وحرية الفكر والاعتقاد تستلزم حرية الوصول إلى المعلومات الصحيحة وإلى الحقائق وتستلزم حرية الاجتماع. وليس من الإسلام أن تضيق الصدور بالاختلاف بين الناس لأن الله خلق الناس وبينهم أختلافات فى اللون والدين والثقافة وإختلاف فى العقول أيضاً،ولذلك فإن من المستحيل أن يصل الناس إلى «الإجماع» على فكرة أو قرار، وهذا ما جعل الإمام ابن حنبل يقول « من ادعى الإجماع فقد كذب» وكان فى ذلك مردداً لقوله تعالى M أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 99 يونس. وقوله تعالى( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وهذا الحق الالهى الذى منحه الله لكل إنسان يشمل حرية التفكير، وحرية الاعتقاد وحرية التعبير، ولولا هذه الحريات لما ظهر المجددون والمصلحون والثائرون على الاستبداد الفكرى والسياسى وسائر أنواع الاستبداد، وعلى ذلك فليس لأحد أن يحكم بالكفر والزندقة على من يختلف معه فى الرأى أو المذهب لأن إضطهاد أصحاب الفكر يكسبهم تعاطف كثير من الناس، ويدفع المضطهدين إلى التفكير فى الانتقام، ومفهوم الحرية لا يعنى أبداً حرية انتهاك الأعراض أو الإساءة إلى معتقدات ومقدسات من نختلف معهم، ولا قذف الأبرياء، فهذه جرائم يعاقب عليه القانون وترفضها كل الأديان والعقائد، ولا علاقة لها بالفكر ولا بالحرية.
***
وعن رحلته الفكرية يقول فى مقدمة كتابه « ظهور وسقوط جمهورية فايمار.. مأساة التخبط فى اتخاذ المواقف»: أراد الله أن أعايش معايشة وثيقة «الإخوان المسلمين» فى عهدها الأول، وكانت وقتئذ أصدق الهيئات المصرية تمثيلاً للشعب وبوجه خاص قاعدته العريضة فى الريف، وكانت أكبر التكتلات الجماهيرية المصرية وأكثرها شجاعة وأطهرها ذمة ويدا، ورزقت قيادة نابغة، ولكن هذا كله لم يشفع لها تجاه قلة وعيها السياسى الذى جعلها تضيع الفرص التى سنحت لها والتى لو أحسنت إنتهازها لأفادت المجتمع المصرى.. ثم طويت هذه الصفحة لأعايش عن كثب كتلة جماهيرية اخرى هىالحركة العمالية التى لم تتوافر لقيادتها ولا لجمهورها ثقافة سياسية فكانت النتيجة أن أصبحت لعبة الحكام، ولم تستطع أن تخدم جمهورها أو أن تخدم المجتمع المصرى، مع أنها هى التى تحرك عجلة المجتمع والإنتاج، ولا تنقصها الجماهير ولا الإمكانات.
***
كان البعض يقول لجمال البنا ولكل من يكتب أن ما يكتبه سوف يذهب مع الريح «صيحة فى واد» فكان رده على ذلك أن على الداعية أن يقوم بدعوته، وعلى الكاتب ان يكتب حتى لو لم يجد قارئين وعلى الخطيب أن يخطب حتى وإن لم يجد مستمعين، أولاً: لأن أداء كل إنسان لواجبه وقيامه بمسئوليته يبرئ ساحته، ثانياً: لأن الكلمة الطيبة النافعة لا تذهب هدراً كما يبدو. فكل كلمة مكتوبة ستصل إلى قارىء والكلمة المنطوقة ستصل إلى من يسمها ويتفاعل معها، ولذلك فلا يأس فى الحياة حتى وإن لم يكن هناك أمل فى حاضر ماثل أو فى مستقبل وشيك.. وبهذه الروح الإيجابية الواثقة كان يكتب ويقول ويطرح أفكاره الصادمة احياناً ويرى أن عليه أن يعرض مالديه والتفاعل بين الآراء والأفكار المختلفة سينتهى حتما بأن يذهب الزبد جفاء ولا يبقى إلا ما ينفع الناس، وهذا هو القانون الإلهى للحياة والتطور.
وإيمانه بالحرية التى تتحقق بها إنسانية الإنسان ظل يدافع عن حرية الصحافة وحرية المرأة والرجل أيضاً، ولكى يبسط فكرته عن إساءة البعض لمفهوم الحرية كان يحكى أن جحا جلس يوماً هو وزوجته أمام الطعام وبعد أن ذاقه قال: ما أطيب الطعام لولا الزحام! فقالت زوجته: اى زحام وليس إلا أنت وأنا، فقال جحا: وددت لو أنى وحدى! والمعنى أن البعض يريد أن يكون هو وحده صاحب الرأى الصائب والقرار الرشيد والحكمة التى لا تقبل المناقشة وصاحب الكلمة التى تطاع ولا يرد عليها، وأمثال هؤلاء هم العقبة أمام التقدم لأن الإنسان عندما يصل إلى مرحلة النضج يكون شعاره فى الحياة هو: (عش ودع غيرك يعيش. فكر بحرية ودع غيرك يفكر بحرية. والحكمة التى أراد الله أن يعلمها للعقلاء هى أنه لولا دفع الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض.
***
والحرية وحدها ليست كل شىء، فالعدل هو الوجه الآخر للعملة، وهما معاً مفتاح التقدم الإنسانى، وليس للحرية معنى فى وجود الظلم فى أية صورة، وهناك دائماً من يدعى أن إطلاق الحرية يمكن أن يؤدى إلى الفوضى، والفرق كبير بين الحرية والفوضى الحرية مرتبطة بالمسئولية إرتباطاً لا يقبل التجزئه، والحرية تسمح بالاختلاف وهو سنة الحياة وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ 118ـ 119 سورة هود.
جمال البنا مهما أختلفنا معه ـ فإننا نتفق معه على أن إنسانية الإنسان لا تتحقق إلا بالحرية والعقل والعدل، وفى داخل هذا المثلث تتحقق للإنسان القدرة على العطاء والبناء. وهو ـ ككل إنسان ـ كان يخطئ ويصيب، ويتقبل الرفض والقبول، وقد قال كلمته ومضى، وعندما نعود بالإنصاف إلى ما كتبه سنجد فيه الكثير مما يفيد التقدم ويثرى الفكر.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف