النهضة العلمية ممكنة بشروط

قلنا أيامها ان قضية تطوير البحث العلمي في مصر ليست قضية وزير البحث العلمي‏,‏ ولكنها قضية كل الوزراء‏,‏وكل المجتمع‏,‏ واذا لم يتم تهيئة المجتمع كله للنهضة العلمية‏,‏ بما في ذلك نظام التعليم والتربية والثقافة والاعلام‏,‏ ونظام اعداد العلماء والاستفادة بهم‏,‏ ونظام التكامل بين أكثر من‏13‏ مركزا للابحاث لا يعلم مركز منها ما يجري في بقية المراكز‏,‏ ولا يتم تبادل الأبحاث والمراجع‏,‏ كما لا يلتقي الباحثون في هذه المراكز لقاءات دورية لتبادل الخبرة ومحاولة ايجاد حلول جماعية للمشاكل التي تواجههم‏..‏
وكان التفاؤل كبيرا بهذه للجنة‏,‏ وتحركت وزيرة البحث العلمي‏,‏ وأعدت مشروعا لخطة قومية للنهضة العلمية والتكنولوجية‏,‏ وانتظرت أن تجتمع هذه اللجنة الوزارية لتنظر وتقرر‏..‏ ولكن اللجنة لم تجتمع أبدا وقضت الوزيرة وقتها في الالحاح والاستعداد والانتظار الي أن خرجت من الوزارة‏,‏ وها نحن نبدأ مرة أخري بنفس البداية بعد ضياع أربع سنوات غالية‏,‏ ولم يعد التفاؤل قويا كما كان‏,‏ لأنه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين‏,‏ ومع ذلك لابد أن نعترف بأن هذه اللجنة العليا هي البداية التي لايمكن بغيرها تخطي الفجوة التكنولوجية بيننا وبين الدول المتقدمة التي تزداد اتساعا وعمقا كل يوم‏,‏ وليس كل عام‏..‏
ومنذ عامين أعلنت حكومة ألمانيا أنها قررت طرد أحد أفراد السفارة الأمريكية في بون لأنها اكتشفت انه جاسوس تكنولوجي‏,‏ يعمل علي سرقة الأبحاث والاختراعات الألمانية وينقلها الي رئاسته في المخابرات الأمريكية‏..‏ ويومها كنت في زيارة ألمانيا وابديت دهشتي من أن يصل الأمر بالدول الصديقة الي هذا الحد‏,‏ ولكني وجدت من شرح لي ان الحرب بين الأصدقاء علي أشدها وهي في هذه المرحلة حرب تكنولوجية‏,‏ وفي الحروب يباح التجسس والسرقة والاختطاف‏,‏ وضربوا لي أمثلة كثيرة عن عمليات التجسس والاختراق الاسرائيلية للمواقع الحساسة للبحث العلمي والتكنولوجي في الولايات المتحدة‏,‏ وعن المنافسة غير الشريفة علي السيادة العلمية والتكنولوجية‏,‏ واحتكار مقومات الموجة الثالثة التي تشمل ثورة الطاقة الذرية‏,‏ وتكنولوجيا الفضاء‏,‏ والالكترونات‏,‏ والمواد الجديدة‏,‏ والهندسة الوراثية‏,‏ والمعلومات‏.‏
وسمعت في ألمانيا الكثير عن حقائق الصراع التكنولوجي الدولي‏..‏ ويكفي ان نعرف مثلا ان أكثر من‏85%‏ من نمو القيمة المضافة في الاقتصاد الأمريكي خلال النصف الأول من القرن العشرين يرجع الي التطور التكنولوجي‏,‏ وبذلك أصبح دور التكنولوجيا في صنع الرخاء الأمريكي أكبر من دور المواد الخام‏,‏ ورأس المال‏,‏ والعمالة‏..‏ ويكفي ان نعرف ان ما يتحقق من أرباح خيالية في هذا العصر لايرجع الي تكلفة المواد والعمل ودور رأس المال‏,‏ ولكن يعود أولا وأخيرا الي العلم الذي يدخل في صناعة هذه السلعة فإن كان علما نادرا ارتفع السعر مئات الأضعاف وقد تكون التكلفة هزيلة‏..‏ فإن شرائح الالكترونات التي تجعل القنابل والصواريخ الغبية ذكية ليست مصنوعة من مواد نادرة‏,‏ ولكنها مصنوعة من السيلكون ـ أي من الرمال ـ وهذه الشرائح هي التي تتحكم في الوسائل الحديثة للاتصال والانسان الآلي‏..‏ كذلك انتاج بدائل المواد الطبيعية مثل الألياف الصناعية بدلا من القطن والصوف‏..‏ وانتاج الألياف الزجاجية بدلا من الأسلاك الصناعية‏..‏ وانتاج المواد شديدة الصلابة التي تقاوم درجات الحرارة والاحتكاك التي تفوق التصور كما يحدث لمركبات الفضاء‏..‏ والأمثلة كثيرة يرددها الباحثون لكي يجعلوا المستمعين اليهم يفتحون أفواههم دهشة واستغرابا‏..‏
ونحن لا نطالب بأن ندخل السباق الدولي من النقطة التي وصل اليها الآن فهذا مطلب مستحيل‏,‏ ولن تسمح لنا بذلك الدول الكبري وبخاصة الدول الصديقة‏..‏ ولا نطالب بأن يكون في مصر عقول علمية تقود العالم في القرن الحادي والعشرين مثل العقول التي تحدثت عنها صحيفة صنداي تايمز منذ أيام وذكرت من بين هذه العقول أحمد زويل العالم المصري الذي اخترع توقيتا جديدا للزمن وفتح بذلك الباب أمام تركيب مواد لم يتم التوصل اليها علميا قبله‏,‏ أو مثل العالم الروسي اندريه ميرزا بيكوف الذي اخترع جهازا يوضع في اليد لفحص وجود جينات معينة في جسم الانسان مما يمثل ثورة قادمة في عالم تشخيص الأمراض الجينية‏,‏ ومثل العالم الياباني تاكيو كاناد رئيس معهد تصنيع الانسان الآلي بجامعة كارنيجي في الولايات المتحدة الذي يقوم بتطوير هذه الأجهزة لكي تقوم بوظائفها دون تحكم بشري‏,‏ ومثل العالم مارك هوماين الذي اخترع تكنولوجيا جديدة لاعادة النظر نسبيا لفاقدي البصر‏..‏ والقائمة طويلة‏,‏ ولكن لا يصل طموحنا الي أن يكون لنا فيها مكان الآن‏..‏
طموحنا الآن أن نبدأ البداية الصحيحة‏.‏
والبداية الصحيحة ليست توفير الأموال فقط‏,‏ ولا اعادة تنظيم مراكز وجهات البحث العلمي والتكنولوجيا فقط‏,‏ ولا التوسع في ايفاد البعوث من شباب العلماء المصريين الي المراكز والجامعات المتقدمة فقط‏,‏ ولكن لابد من كل هذه العناصر وقبلها أن نؤمن بأن النهضة العلمية والتكنولوجية قضية سياسية بالدرجة الأولي ولا يمكن ان تتحقق الا بأرادة سياسية وبقرار سياسي‏..‏ وليست مسئولية وزير أو وزارة مهما اعطيناها من الأموال والصلاحيات‏..‏ ولكنها مسئولية المجتمع كله‏..‏
وليس من الانصاف أن نغفل وجود العلماء المصريين الأكفاء الذين يعملون في صمت‏,‏ وفي ظروف صعبة‏,‏ ويحققون انجازات تجد التقدير من الجهات العلمية في الخارج ولا تجد التقدير في الداخل‏.‏
كذلك لا يكفي ان نردد صباح مساء أهمية ربط البحث العلمي بالصناعة‏,‏ أو ضرورة مشاركة الشركات في تمويل البحث العلمي‏,‏ لان ذلك لن يجدي‏,‏ فكيف يشعر اصحاب الصناعات التقليدية البسيطة القائمة بالحاجة الي البحث العلمي وتطوير التكنولوجيا‏,‏وما هي حاجتهم الي انفاق أموالهم في أبحاث يعلمون أنهم لن يطبقوها لان طبيعة هذه الصناعات لا تحتاج الي كل هذا الانفاق‏..‏ لابد أن ندخل صناعات جديدة مرتبطة بالعلم والتكنولوجيا‏..‏ فصناعة السجاد والسيراميك والاثاث والملابس لا تحتاج الي علماء ومعامل ومراكز ابحاث ممثل صناعة الكمبيوتر والالكترونات عموما واستخدامات الطاقة الذرية للأغراض السلمية وغيرها من المجالات المرتبطة بالقرن الحادي والعشرين‏..‏ لابد ان نحدد الهدف أولا‏..‏ ولابد أن تكون هناك مشكلة نضعها أمام العلماء ونطلب منهم البحث لحلها‏..‏ فالبحث العلمي يبدأ دائما بمشكلة‏..‏ ولابد ان ندرك ان دخول القرن الحادي والعشرين لن يكون بشراء أحدث ما في العصر من تكنولوجيا‏..‏ ولكن بتصنيع أبسط ما في العصر من تكنولوجيا وتطويرها بعد ذلك لتكون تكنولوجيا مصرية ـ عربية‏..‏ لان القضية ليست شراء التكنولوجيا فهذا سهل‏..‏ ولكن صناعة التكنولوجيا الحديثة فهي الأمر الصعب ولكن لابد أن نفكر فيه‏.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف