مفتاح القرن الحادى و العشرين
أمضينا السنوات الطويلة نتحدث ونحلم ونفكر عن مصر والعرب في القرن الحادي والعشرين, وكأن هذا القرن بعيد جدا وأمامنا من الزمن متسع, وها هو القرن الجديد قد جاء ودول العالم تدخله من أبواب مختلفة, وبعضها لن تدخله أصلا, وسيزداد بعدا واغترابا عما كانت عليه في القرن العشرين, ومن حسن حظنا أننا أدركنا في الوقت المناسب المفتاح الذي يفتح لنا الباب الصحيح الي هذا القرن, وهو: التعليم, والعلم, وهما كفيلان بترشيد خطواتنا لتحقيق ما هو ضروري لتحسين الحياة, وفي مقدمة هذه الضروريات التقدم الاقتصادي والسياسي, أي التنمية, والحريات, وحقوق الانسان.
ومن يتابع خطابات الرئيس مبارك سوف يلاحظ تركيزا مقصودا علي التعليم والعلم, مما يدل علي وعي كامل لدي القيادة بأن النهضة الحقيقية لكي تقوم علي أساس صحيح وقوي لابد أن تقوم عليهما, وهذا ما حدث ويحدث في كل نهضة.. مصر بدأت نهضتها بالتعليم في عصر محمد علي حين أوفد رفاعة رافع الطهطاوي الي باريس علي رأس بعثات من نوابغ الشباب في ذلك الوقت, وبعودتهم بدأ أكبر مشروع لترجمة العلوم الحديثة, وانشأ المدارس, والمطبعة الأميرية, وبدأت من هنا مسيرة دخول مصر القرن العشرين.. واليابان بعد أن تهدمت في الحرب العالمية الثانية واستجمعت قواها بارادة نادرة لنهضة جديدة بدأت بالتركيز علي التعليم.. والولايات المتحدة بدأت برنامجها للقرن الحادي والعشرين بتنفيذ مشروع كلينتون التعليم العالي للجميع.. واسرائيل بدأت أول ما بدأت في اقامة الدولة بانشاء المدارس والجامعات الحديثة ومراكز البحوث المتقدمة, وهي الآن تنفذ السياسة التي أعلنها شيمون بيريز حين كان رئيسا للوزراء حين أعلن: أننا نستطيع أن نحسم الصراع لصالح اسرائيل بالتعليم, وباتاحة التعليم الجامعي لكل فتي وفتاة في اسرائيل, والأرقام تشير الي أن نسبة التعليم الجامعي في أمريكا الآن64% وفي فنلندا62% وفي كندا63% وفي اليابان53% وفي اسرائيل35% وفي مصر19%.
والفكرة الموجهة لهذا السباق العالمي علي التوسع في التعليم العالي هي أن الجامعة تمثل القوة الأساسية للتقدم, وان التعليم الأساسي في القرن العشرين كان يعني مرحلة التعليم المتوسط, أما في القرن الحادي والعشرين فإن التعليم الأساسي سيكون هو التعليم العالي, وستكون بعده مراحل أخري للمتفوقين والنوابغ, وان كان الشعار المرفوع في الدول المتقدمة للقرن الحادي والعشرين هو التميز للجميع.
ومن حسن حظنا أن وزير التربية والتعليم الدكتور حسين كامل بهاء الدين لديه رؤية واضحة عرضها بدقة واستفاضة في كتاب التعليم والمستقبل الذي صدر هذا العام وفاز بجائزة أحسن كتاب, وترجم الي اللغة الانجليزية, وقررت حكومة الصين ترجمته وتوزيعه علي المدرسين. وفي هذا الكتاب يعرض تصورا متكاملا لاعادة بناء المؤسسة التعليمية في مصر علي أسس جديدة, وبروح جديدة, وهذا مشروع قومي يحتاج الي أن يشارك المجتمع كله في تنفيذه, لكي يكون التعليم قادرا علي اعداد انسان صالح للتعامل مع العالم كما سيكون بعد15 عاما, بما سيكون فيه من تحديات الثورة التكنولوجية, وتحديات المنافسات والاحتكارات العالمية, وتحديات القوة والنفوذ الدولي علي القرار الوطني, وتحديات العنف والارهاب وبدايتهما دائما في العقول, وتحديات عصر الموجة الثالثة التي تحدث عنها المفكر الأمريكي الفين توفلر, وفيه يتحول المجتمع من الاعتماد علي وفرة العدد والعمل البدني الي الاعتماد علي المعلومات والفكر والتكنولوجيا, ومن مجتمع مستهلك للسلع التقليدية الي مجتمع مستهلك لسلع جديدة من البرمجيات, ويحل العلم محل رأس المال, كما يحل الروبوت محل العامل. وتحل بطاقة الائتمان البلاستيك محل النقود, وتزول الحدود تقريبا بين الدول, وتقل أهمية العمالة اليدوية ورأس المال, وتصبح الأهمية الكبري للعلم, والقوة الكبري لمن يمتلك وسائل انتاج العلم والاضافة اليه.. في عصر سوف تتكفل فيه الهندسة الوراثية بانتاج أدوية لا تحتاج الي معامل كبيرة, وأغذية لا تحتاج الي مزارع.. عصر تسيطر فيه التكتلات والتحالفات الاقتصادية.. وتكون المجالات الحاكمة فيه هي الالكترونيات, والتكنولوجيا الحيوية, والمواد الجديدة, والكمبيوتر, والروبوت, وصناعة الاتصالات, وهي مجالات لا تحتاج الي مواد أولية كثيرة أو نادرة, ولكنها تحتاج الي تقدم علمي كبير ومهارات خاصة.
من هنا تظهر أهمية التعليم في القرن الحادي والعشرين.. لأنه هو الوسيلة الوحيدة لاعداد الانسان المصري والعربي لهذا العصر الجديد الذي يختلف اختلافا هائلا عن العصر الذي عاشته الانسانية في القرن العشرين.
وفي محاضرة أخيرة للدكتور حسين كامل بهاء الدين تحدث فيها عن ثورة المعلومات الآن في العالم المتقدم التي وصلت الي حد أن حجم المعرفة الانسانية يزيد بمقدار الضعف كل18 شهرا فقط, وعلينا أن نهتم اهتماما خاصا بالنابغين في المجتمع, وهم يمثلون نسبة1% من تعداد السكان أي600 ألف, هم الذين يمكن أن يكونوا في مستوي أحمد زويل ونجيب محفوظ اذا وجدوا الرعاية والمناخ المناسب منذ البداية وقبل أن يضيع نبوغهم في زحام الحياة, وهناك أيضا نسبة تتراوح بين10% و15% من تعداد السكان من أصحاب المواهب العلمية والفنية والأدبية, هؤلاء الموهوبون هم الثروة الحقيقية لكل مجتمع, بل ان90% من الأطفال يمكن أن يصلوا الي مرحلة التميز اذا وجدوا التعليم المناسب.
ويصل الدكتور بهاء الدين الي المفتاح الحقيقي للقرن الحادي والعشرين وهو التعليم المتميز الذي يعمل لاعطاء فرصة التميز للجميع, لكي يكون المجتمع كله متميزا.. وليكون له مكان في هذا العالم الذي وصل الي درجة الانفجار المعرفي. وأصبحت صناعة الالكترونيات فيه تملك نصف رأس مال السوق العالمية, وأصبح حجم تجارة الالكترونيات20,9% تريليون دولار!
وما تحقق حتي الآن ليس قليلا, فإن بناء10 آلاف مدرسة جديدة في السنوات السبع الأخيرة وحدها ليس قليلا, ووجود أكثر من18 ألف مدرسة فيها معامل وأجهزة كمبيوتر متصلة بالانترنت ليس قليلا, وبشهادة اليونسكو فإن مصر دولة رائدة في تطوير التعليم, وجاء الوقت للمرحلة الجديدة وهي التميز للجميع لكي نقدر علي البقاء واقفين علي أقدامنا في عصر العولمة.
والمشروع الكبير الذي يطرحه الدكتور حسين كامل بهاء الدين لايمكن أن يكون مشروع وزير واحد, أو وزارة واحدة, ولكنه مشروع البلد كلها, بكل مؤسساتها وكل فئاتها, وكل أفرادها, ولابد أن يشارك الجميع فيه بأكبر قدر من المشاركة, لأننا اذا لم ننتهز الفرصة, ونلتفت الي هذه الدعوة فسوف يجري قطار القرن الحادي والعشرين بسرعة الصاروخ ولن نستطيع اللحاق به بعد ذلك أبدا.. وان كان هناك من يضعون أصابعهم في أذانهم ولا يفهمون قيمة هذا المفتاح الحضاري الوحيد, ويشغلون أنفسهم بقضايا صغيرة وفرعية, ويشغلون الرأي العام بأمور وقتية وزائلة, هؤلاء سوف يدينهم التاريخ, لأنهم انشغلوا وشغلوا المجتمع بأمور فرعية وتركوا الأمور الكلية التي تدفع حركة المجتمع الي الأمام وتجعلنا نتجاوز الماضي والحاضر ونعيش في المستقبل.