نداء رمضان
مع بداية الشهر الكريم وجه الرئيس مبارك نداء إلي المواطنين بأن يقدموا تبرعاتهم لبناء مساكن الفقراء ومحدودي الدخل والشباب. وأعتقد أن هذا النداء هو الترجمة العملية لروح شهر رمضان الذي يمثل مدرسة للتربية الروحية القائمة علي التضحية وتحمل المشاق والحرمان, والإحساس بما يعانيه الفقراء.. وهو في الوقت نفسه بداية لمشروع قومي كبير يمكن أن يلتف حوله الشعب كله, ويجعله قضيته عام2000 وبعد ذلك يستمر ويتحول إلي أسلوب حياة لجميع المصريين.. لتكون المشاركة التي نتعلمها من مدرسة رمضان هي أسلوب الحياة المصرية في كل الشهور وكل السنوات وكل الأحوال والمجالات.
نداء رمضان ـفي رأييـ يمثل بداية جديدة, وتحولا في الفكر والعمل.. ففي ظل مرحلة تملك الدولة لوسائل الإنتاج, والخدمات, كانت الدولة هي المركز الذي تتجمع فيه كل السلطات, وكل الاختصاصات, وكل المسئوليات.. ومع التحول الجذري العالمي والمحلي انتقلت أغلب وسائل الإنتاج إلي ملكية المواطنين, وانفتحت الآفاق أمام المبادرات الفردية, وأصبحت الثروة الحلال بالطرق المشروعة مطلبا مشروعا وممكنا لكل من لديه المقدرة علي العمل والإبداع وتحمل المخاطر.. ومع هذا التحول الجوهري في تكوين المجتمع أصبح من الطبيعي أن ينتقل جانب كبير من المسئولية والاختصاصات والسلطات السياسية والاجتماعية إلي المواطنين.. وأن تظهر الدعوة إلي المشاركة في كل المجالات.
والمشاركة في المسئولية السياسية في ظل هذا النظام الجديد تعني الكثير.. ابتداء من مسئولية المواطنين في المشاركة في الانتخابات التشريعية والمحلية وانتخابات الجمعيات والأندية وسائر المنظمات لكي تعبر نتائج كل انتخابات عن الإرادة الحقيقية لجموع المواطنين ولا تكون مقصورة علي التعبير عن إرادة الأقلية الإيجابية التي تحرص علي المشاركة وتستغل سلبية الأغلبية.. وتمتد هذه المسئولية أيضا إلي مشاركة المواطنين في وضع السياسات, وإدارة, ومراقبة, المرافق والخدمات في عمومها.. ولاشك أن اشتراك المواطنين بإيجابية وجدية في مجالس الآباء سيؤدي إلي تطوير عملية التعليم والإدارة المدرسية, ويحول الشكاوي إلي مراقبة جادة لكل خطأ منذ بدايته وعلي مستوي الوحدة الصغيرة ويساعد علي اتخاذ القرارات للإصلاح.. وكذلك الحال في إدارة المستشفيات.. وأعتقد أنه آن الأوان لتكوين مجلس إدارة لكل مستشفي يشترك فيه الأطباء مع المنتفعين بالخدمة والذين يهمهم تقديمها علي أكمل وجه, وهم المواطنون وممثلوهم المنتخبون.. وهكذا يجب أن تمتد المشاركة إلي كل الخدمات والمرافق فيقدم المواطنون فكرهم وأموالهم لتحسينها ويتولون هم تنفيذ وإدارة هذه المشروعات بأنفسهم.. ويتحول المجتمع كله إلي مجتمع مسئول ومشارك, وتنتهي السلبية التي نشكو منها, وينتهي أيضا دور المواطن الذي يعيش خارج الإطار ويكتفي بدور المراقب والناقد فقط.
مشكلتنا أنه في المجتمع المصري رواسب نفسية وسلوكية من آثار المراحل السابقة التي عمقت الشعور بالفردية, وجعلت المصالح الفردية هي الدافع والمحرك للعمل, وأدت إلي تعطيل المبادرات الشعبية, وإقصاء روح العمل الجماعي التطوعي الذي يقوم فيه المواطنون بخدمة أنفسهم ورعاية غير القادرين منهم.. بدافع من التعاليم الإلهية.. ومن الزكاة المفروضة عليهم.. ومن الإسهامات في حدود قدرة القادرين كما يحدث في الدول المتقدمة.. فكل الخدمات والمدارس والجامعات والمستشفيات ومراكز الأبحاث في أمريكا مثلا تعتمد اعتمادا أساسيا علي التمويل الذي يأتيها من إسهامات الشركات الكبري والأفراد, وهذه الروح يمكن أن تنتقل إلينا, وإن كان هناك من يقول إن المصريين ليسوا مشاركين, لأن آثار العصور الماضية جعلتهم سلبيين تجاه كل عمل جماعي أو تطوعي.. وأصبحت لديهم حساسية خاصة تجاه فصل مطالبتهم بتبرعات لأي جهة.. فإنهم يفضلون أن يقدموا التبرعات والزكاة والصدقات بأيديهم ليطمئنوا بأنفسهم إلي أين ذهبت.. وهناك من يقول إن المصريين بقدر ما يتحمسون لكل عمل أو مشروع فردي فإنهم يفقدون هذا الحماس لكل مشروع جماعي.. ويصلون إلي القول بأن العبقرية المصرية عبقرية أفراد وليست عبقرية مجتمعات أو تجمعات أو جماعات..
وهذا التحليل لروح المصريين فيه خطأ جوهري, هو عدم استناده إلي رؤية موضوعية لما حدث وما يحدث من سلوك المصريين.. فكيف ننسي ما فعله المصريون في أعقاب هزيمة67 حين تقدموا طواعية وعن طيب خاطر للتبرع للمجهود الحربي بأموالهم وحلي الزوجات والأطفال, وكانت طوابير المتبرعين تقف بالساعات في مراكز جمع هذه التبرعات.. وكانت هذه الطوابير تضم القادرين وغير القادرين.. بل وكان فيها كثيرون من عمال فقراء وخادمات وباعة جائلين.. وكانت هذه الطوابير ظاهرة تنقلها وسائل الإعلام العالمية.. وكيف ننسي ما قدمه رجال الأعمال لبناء مساكن لمن تهدمت مساكنهم بالزلزال.. وبناء150 مدرسة.. وأخيرا إسهاماتهم في بناء20 ألف مسكن من خلال جمعية المستقبل.. ومثل هذه المبادرات نماذج حقيقية لروح المصريين التي تظهر في الأزمات, ففي الأزمة تتفجر طاقات هائلة فيهم, ويتدفق نهر العطاء بأريجية وعن طيب خاطر ودون انتظار كلمة شكر. ولاشك أن استمرار هذه الروح ممكن لبناء المستقبل, ولاستكمال النقص في الخدمات التي لا تستطيع الدولة وحدها أن توفر لها احتياجاتها الكاملة.
وإذا كان هناك من يقول إن المشاركة لا تنمو وتتأصل في المجتمع إلا إذا كانت هناك نماذج لرجال وسيدات يمثلون القدوة في البذل والتضحية ويقدمون أموالهم وجهودهم ويشاركون في الخدمة العامة والمشروعات الخاصة برفع مستوي الخدمات.. وهؤلاء عليهم أن يفتحوا عيونهم ليروا نماذج موجودة بالفعل في المجتمع المصري تقدم الكثير, وحققت إنجازات يلمسها الناس, وهناك عشرات من أمثال سيد جلال الذي أنفق كل أمواله في بناء مستشفي ومدرسة وخدمات للفقراء.. بعضهم يفعل ذلك سرا وبعضهم يفعله علانية.. وهناك كثيرون جدا يسهمون في جمعيات رعاية اليتامي, والمكفوفين, وذوي العاهات, والمتخلفين عقليا, والمرضي بأمراض مستعصية, ويكفي أن معهد السرطان أصبح أكبر معاهد الشرق الأوسط بالتبرعات في الأساس.. وهكذا.
وأعتقد أن نداء رمضان الذي وجهه الرئيس جاء في وقته, في شهر تصفو فيه الأرواح, وتزهد من الماديات, وتتعلق بالسماء, وتتفكر في الإعداد للرحلة الكبري التي يترك فيها الإنسان كل ما جمعه من أموال وأملاك ولا يبقي له إلا الأعمال خيرا أو شرا.. وجاء هذا النداء في وقته أيضا لأن قضية الإسكان أصبحت لها الأولوية بخاصة للشباب الذي يعجز عن الحصول علي مسكن في ظل قوانين السوق.. وجاء في وقته بعد النجاح الذي حققه مشروع إسكان الشباب, وأصبحت النتائج ماثلة أمام العيون, تجسيدا للنتائج العظيمة التي يمكن تحقيقها بالاسهامات الشعبية.
وواجب الإعلام, والمدارس والجامعات, والمثقفين, ورجال الأعمال, أن يجعلوا نداء رمضان هذا هو القضية الأولي طوال شهر رمضان المبارك, وبعد رمضان أيضا, لكي تتجسد روح مصر.. الكل في واحد في مشروع قومي كبير يكون شاهدا للتاريخ علي مقدرة المصريين علي التكافل والعطاء. وينال الجميع ثواب الدنيا والآخرة.