فريضة التفكير فى المستقبل
لفارق الأساسي بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة هو أن الفرد في العالم المتقدم يؤمن بالتخطيط ايمانا يجعله يخطط لنشاطه وأعماله ورحلاته لسنوات مقبلة ويعمل كل يوم ـ وكل ساعة ـ علي تنفيذ برنامجه الذي أعده مسبقا لتنفيذ هذه الخطة.. وكذلك الحال في كل مؤسسة وكل تنظيم أو جماعة. وهو كذلك بصورة أدق وأشد انضباطا في المجتمع والدولة..
بينما في المجتمعات المتخلفة لا يشغل الناس أنفسهم بالتفكير إلا في يومهم, ولا يهتمون إلا بمشكلة أو أزمة تفجرت فعلا, ويتركون المستقبل للأقدار, وشعارهم أن يعيشوا اليوم ولا يهم مايحدث غدا لأنه في علم الغيب, وبالتالي فليس لارادة الانسان قدرة علي معرفة ما سيجري فيه.
هذا التفكير قصير النظر, المتواكل, والسلبي, هو ميراث عصور الظلام والجهل والاستعمار, ونتاج فهم منحرف لمفهوم التوكل علي الله الذي فسره الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ بوضوح في الحديث الشريف: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.. والحديث الشريف الذي يأمر المسلم اذا ادركته القيامة ونهاية العالم وفي يده فسيلة أن يزرعها, وليس هناك ما هو أعظم وأكمل من هذه الدعوة إلي العمل لمستقبل البشرية حتي ولو لم يكن هناك مستقبل للبشرية.
قد يقال ـ بحق ـ إن التفكير علي مستوي الدولة قائم علي التخطيط, وهناك خطط خمسية تنفذ بدقة ونجاح وانتظام, وهذا صحيح, ولكن الفرد في حياته الخاصة مازال يعيش تاركا نفسه لما تأتي به المقادير دون أن يخطط لحياته كلها ويجعل لها هدفا يسعي إليه خطوة خطوة, ودون أن يضع لنفسه خطة عمل وبرنامجا للغد, والأسبوع والشهر والعام القادم وهكذا..
وهذا النمط من التفكير والسلوك مرتبط بدرجة التعليم والوعي بأهمية الوقت, والقدرة علي تنظيم وادارة الوقت, ومدي الايمان بقدرة الانسان وبالحرية في الاختيار والارادة.. كما هو مرتبط بأسلوب التربية وبدرجة تعمق احساس الانسان بأنه قادر علي أن يجعل لحياته هدفا ومعني وقيمة.
هذا علي المستوي الفردي, أما علي المستوي الجماعي, ففي الدول المتقدمة جماعات للتفكير في المستقبل, بعضها يعمل بتكليف من الدولة, وبعضها الآخر يعمل متطوعا بدافع من شعوره بمسئوليته الاجتماعية, وتضم هذه الجماعات عادة علماء وخبراء من تخصصات مختلفة, ومع الزمن أصبح هناك علم خاص اسمه علم المستقبل يختص بتحديد مناهج التفكير العلمي في المستقبل, وكيفية وضع تصورات واحتمالات وخيارات متعددة للمفاضلة بينها, ولدراسة السلبيات والايجابيات والمخاطر والضرورات المرتبطة بكل منها.. وأصبح شائعا أن يوضع لكل تصور سيناريو كامل يحدد الهدف, والوسائل, وطريقة التنفيذ, والمشاكل المتوقعة, وكيفية التغلب عليها, بحيث لا تترك للمصادفة الا مساحة ضئيلة, وكذلك الحال بالنسبة للأزمات, فهناك علم للتنبؤ بالأزمات واعداد سيناريوهات لمنع وقوعها, أو تقليل آثارها السلبية علي الأقل, ولم تعد الأزمات تفاجيء الدول المتقدمة كثيرا, لأنها دائما جاهزة لمواجهتها وفي حالة توقع واستعداد.. ولا تفكر في الحلول في أثناء الأزمة ولكنها تفكر فيها قبل أن تقع.. ولذلك فإن كل الدول المتقدمة فيها مراكز لادارة الأزمات المتوقعة والمحتملة, والأزمات القائمة بأسلوب علمي أصبحت له مبادئه وقواعده. بينما تفاجأ الدول المتخلفة بكل أزمة, وكأنها صاعقة وقعت عليها من السماء, ولم تكن لها مقدمات وارهاصات وأسباب تجعلها محتملة الحدوث.. في الدول المتقدمة هناك علم التنبؤ وهو أيضا علم قائم علي أسس علمية وليس مجرد اجتهادات شخصية أو شطحات خيال..
أقول ذلك وأمامي دراسة رائعة بعنوان الأسس النظرية والمنهجية لسيناريوهات مصر عام2020 أعدها أساتذة متخصصون في التخطيط والاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة, واشترك فيها الدكتور اسماعيل صبري عبدالله المفكر المعروف ووزير التخطيط الأسبق, والدكتور ابراهيم سعدالدين وعدد كبير من المفكرين وأساتذة الجامعات المعروفين, ويدعم هذا الجهد العلمي بنك الاستثمار القومي, والبرنامج الانمائي للأمم المتحدة, والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي, وذلك في إطار مشروع بحثي ينفذه منتدي العالم الثالث, وهذه الدراسة هي الدراسة الرابعة لتحديد السيناريوهات والاختيارات المطروحة أمام مصر في السنوات العشرين من القرن القادم. ويناقش بحرية علمية وموضوعية أربعة سيناريوهات: الدولة الاسلامية, والرأسمالية الجديدة, والاشتراكية الجديدة, والتآزر الاجتماعي, وتسعي هذه الدراسة الي تحقيق ثلاثة أهداف أولها: صياغة عدد من الصور البديلة لأوضاع المجتمع المصري في عام2020 مع تحديد المسارات التي تؤدي بالمجتمع الي أن يكون علي صورة أو أخري من هذه الصور, ومدي قدرة كل مسار مستقبلي من هذه المسارات الأربعة علي الوفاء بأهداف التقدم, وما ينطوي عليه كل مسار من منافع وأعباء, والهدف الثاني: بلورة منهج جديد في ادارة شئون المجتمع والدولة, والهدف الثالث: تنمية رأي عام مهتم بالمستقبل, وما قد يحمله من فرص أو مخاطر والاستعداد لمواجهة تحديات المستقبل.
ومن المقدر أن تستغرق جهود هذه المجموعة من العلماء المصريين لانجاز هذا المشروع الكبير ثلاث سنوات بدأت في يناير عام1998 وتنتهي مع نهاية عام2000, وهو في حقيقته دعوة لكل صاحب فكر للمشاركة في اعداد تصور متكامل لما يجب عمله وما يجب تجنبه لكي نحقق أهدافنا, وذلك من خلال البحث والاعداد الجيد, وتعميق الحوار للتعرف علي رؤي الناس علي اختلاف أعمارهم ومستويات تعليمهم ومستوياتهم الاجتماعية, ومن خلال تحليل اتجاهات القوي السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع ومشروعاتها.. وتوسيع نطاق الحوار الي حد اشراك الشباب والأطفال وسكان البدو والصعيد والمدن الجديدة للتعبير عن همومهم ورؤيتهم للمستقبل.
ولقد شعرت بسعادة كبري وأنا أتصفح الدراسة المبدئية لهذا المشروع الكبير, ليس فقط لما لمسته فيها من الجهد والأمانة والصدق, ولكن أيضا لاني اكتشفت أن المجتمع المدني المصري يتحرك فعلا في الاتجاه الصحيح.. فهذا نشاط غير حكومي.. ويعمل في الاتجاه الموازي للجهد الحكومي.. يساعده.. ويغذيه بأفكار وتوجهات جديدة.. ويطرح قضايا ومشكلات واحتمالات.. ويدعونا الي التفكير في كل نواحي حياتنا بهدوء وبعمق وموضوعية لندرك الأبعاد الحقيقية لكل موضوع من الموضوعات التي تطرح عادة بالشعارات والأفكار العامة الغامضة.. ولنفكر فيما يمكن أن يحدث لو أخذنا بهذا الحل أو ذاك.. ونفاضل بين الحلول.. وبذلك تنتهي مرحلة النظرة الاحادية التي سادت حياتنا والتي تجعل لكل هدف طريقا واحدا, ولكل مشكلة حلا واحدا, بينما هناك احتمالات أخري قد تجعلنا نمزج بين الحلول المتعددة أو نفاضل بينها, باختيار حر وبعد تمحيص..
واعتقد انه لن يطول بنا الزمن حتي يصبح الانشغال بالمستقبل والاعداد له جزءا لا يتجزأ من الشخصية المصرية الجديدة.