مؤتمر للإصلاح العلمى

المرحلة الجديدة من مراحل العمل الوطني هي مرحلة التغيير‏..‏ ليس بمعني الانقلاب وهدم كل ما هو قائم‏,‏ ولكن بمعني إعادة النظر‏,‏ وإعادة البناء‏,‏ وإعطاء الفرصة لفكر جديد ودماء جديدة‏.‏ والدافع لذلك هو اعداد مصر لقرن جديد لا مكان فيه للمترددين أو المستسلمين للأمر الواقع‏..‏ ولقد بدأت عجلة التغيير في الحياة السياسية‏..‏ وبعدها سوف تدور عجلة التغيير في الحياة الاجتماعية‏..‏ وبقي أمامنا الجانب الأهم في مثلث النهضة وهو التغيير في سياسات ونظم وقيادات البحث العلمي‏.‏

وفي مجال البحث العلمي هناك اتجاهان متعارضان وعلي طرفي نقيض‏..‏ اتجاه يطالب بما يشبه الثورة ليكون التغيير شاملا وكاملا وعميقا يشمل الاستراتيجية‏,‏ والسياسات‏,‏ وأساليب العمل‏,‏ وقيادات البحث العلمي التي تتولي عملها بنفس العقلية البيروقراطية التي تدار بها هيئة الأوقاف ومصلحة الشهر العقاري‏..‏ واتجاه آخر يواصل إصراره وتأكيده أن الأمور تسير علي خير مايرام ولا ينقصنا إلا زيادة في الاعتمادات واستيراد بعض الأجهزة‏..‏ ولا شيء يلزمنا أكثر من ذلك‏.‏

والاتجاه الثاني هو الغالب الآن‏,‏ لأنه يتفق مع الرغبة في الاستسلام للواقع‏,‏ وعدم القدرة علي إعادة بناء مؤسسات وقيادات ونظم وأهداف البحث العلمي بما يتناسب مع مايحدث في العالم الآن بما في ذلك دول صغيرة في جنوب شرق آسيا وفي الشرق الأوسط‏.‏

ويبدو واضحا أن مسافة التخلف والفجوة العلمية والتكنولوجية تزداد سنة بعد سنة‏,‏ بل يوما بعد يوم‏,‏ بيننا وبين من سبقونا‏,‏ وإذا استمرت معدلات التقدم كما هي فلن يكون لنا مكان بين الدول المشاركة في التقدم العلمي‏,‏ وسوف تظل مراكز البحث عندنا مشغولة ببحث فوائد حبة البركة بينما العلماء في دول أخري مشغولون بغزو الفضاء‏,‏ والاستنساخ‏,‏ والبحث عن علاجات جديدة للأمراض المستعصية‏,‏ وابتكار أجهزة لتوفير الطاقة‏,‏ والسيطرة علي الاتصالات والمواصلات‏.‏

وقد وصلنا إلي حالة لم يعد ممكنا الاستمرار فيها‏,‏ أو الرضا عنها‏,‏ ونحن نعلم مدي الارتباط بين البحث العلمي والأمن القومي‏,‏ وقد كتب الأستاذ سيد ياسين كثيرا للتنبيه إلي أن الجانب الإسرائيلي يتبني مفهوما للسلام علي أساس التفوق العسكري والعلمي لإسرائيل‏,‏ وارتياد الصناعات الفائقة التطور خصوصا في مجال تكنولوجيا الاتصال والآلات الدقيقة وأبحاث الفضاء‏,‏ وقد أدي هذا التوجه الاستراتيجي للعلم والتكنولوجيا إلي أن يقفز حجم الصادرات الإسرائيلية من هذه السلع التكنولوجية الي معدلات غير مسبوقة‏,‏ بالاضافة إلي توفير البني التحتية وتدعيم سياسات الأمن وفقا للمفهوم الإسرائيلي الذي يعني الحرص علي تفوق إسرائيل علميا وعسكريا علي جميع الدول العربية مجتمعة‏.‏

وأضاف الأستاذ سيد ياسين إلي ذلك تشخيصه لجوهر المشكلات التي تعانيها نتيجة غياب سياسة للعلم والتكنولوجيا مثل‏:‏ سيادة نمط متخلف في استيراد التكنولوجيا بالاعتماد علي الخارج في نقل التكنولوجيا التي تهيمن عليها المراكز التكنولوجية في الغربة التي تفرض شروطها المالية والتقنية والسياسية‏,‏ وهذا يؤدي إلي إضعاف التكنولوجيا الوطنية‏,‏ وإهدار نتائج البحوث التي يتوصل إليها علماؤنا‏..‏ ويضاف إلي ذلك غياب سياسات العلم والتكنولوجيا وارتباطها بالأمن القومي في وعي النخبة‏,‏ وغلبة وزن أصحاب المصالح في عملية صنع القرارات الخاصة بالتكنولوجيا‏,‏ والاندفاع للاستيراد‏,‏ والسعي إلي تحطيم المؤسسات الاقتصادية ومراكز البحث والشركات التي قامت بدور رائد في فترة سابقة لإيجاد تكنولوجيات محلية‏,‏ أو تعديل تكنولوجيات مستوردة كما حدث في قطاع الأدوية بنجاح كبير‏,‏ وبعض الشركات الأجنبية تشترط في عقودها وقف الإنتاج الوطني في مجالات نشاطها‏,‏ وفي النهاية فإن مشكلات البحث العلمي لن تحل بزيادة الميزانيات فقط‏,‏ والأهم من ذلك صياغة سياسات جديدة للعلم والتكنولوجيا واضحة ومحددة‏.‏

ومن هذا التشخيص للحالة التي وصل إليها البحث العلمي ليس أمامنا إلا الدعوة إلي عقد مؤتمر موسع يرأسه الرئيس مبارك بنفسه‏,‏ ويسبقه إعداد جيد من فرق متخصصة من الخبراء والعلماء المصريين في الداخل والخارج‏,‏ ويشارك فيه أهل الفكر ووزراء البحث العلمي السابقون‏,‏ وممثلو الشركات العاملة في مجالات التكنولوجيا‏,‏ ويبدأ هؤلاء الخبراء بدراسة موضوعية لكل ما تم في مجالات البحث العلمي في المراحل الماضية‏,‏ وتقيم النتائج التي تحققت حتي الآن في كل مجال‏,‏ ودراسة استراتيجية البحث العلمي والسياسات الموضوعة‏,‏ إن كانت هناك استراتيجية وأهداف وسياسات لتحديد ما إذا كانت صالحة للتعامل مع تطورات العلوم الحديثة‏,‏ وكذلك دراسة أوضاع مراكز البحث العلمي‏,‏ هل هي مناسبة لتحقيق أهدافها‏,‏ وهل استمرار تبعيتها لجهات متعددة أفضل أو تجميعها تحت قيادة وسياسة واحدة‏,‏ وتحديد المواصفات اللازمة لمن يشغلون المواقع القيادية في مراكز البحث العلمي‏,‏ وهل يكفي الحصول علي درجة الدكتوراه‏,‏ أو تحتاج قيادة هذه المراكز إلي قدرات علمية وتنظيمية وادارية أخري‏,‏ وهل يتلقي هؤلاء القادة التدريب المناسب وتتاح لهم فرص الاحتكاك بالمراكز المماثلة المتقدمة في العالم وفقا للسياسة المتبعة التي ينفق عليها ملايين الدولارات لاستقدام مدربين وسفر فرق كرة القدم للاحتكاك بالفرق المتفوقة في هذه اللعبة في الشرق والغرب‏..‏

واعتقد ان هذه الدراسات إذا تم إعدادها بموضوعية وحياد وإخلاص‏,‏ وطرحت لحوار جاد وحر في مؤتمر شامل‏,‏ سوف تكون بداية حقيقية للإصلاح في مجال البحث العلمي‏,‏ كما كان المؤتمر الاقتصادي الذي تبناه الرئيس مبارك في عام‏1981‏ بداية الإصلاح الاقتصادي الحقيقي‏,‏ وكما سيكون المؤتمر الاجتماعي الذي سيعقد برئاسة الرئيس مبارك قبل نهاية هذا العام بداية لوضع استراتيجية للاصلاح الاجتماعي وإعادة بناء المؤسسات الاجتماعية الحكومية والأهلية‏,‏ ووضع الأسس في مجالات التربية والإعلام والرعاية الاجتماعية والثقافة لإعادة بناء منظومة القيم والأخلاقيات والسلوك في المجتمع‏,‏ وتطوير مفاهيم التضامن والعدالة الاجتماعية‏.‏

والنتائج التي يمكن أن يتوصل إليها هذا المؤتمر ستكون أساسا جيدا تبدأ به اللجنة العليا للبحث العلمي والتكنولوجيا التي أعلن الرئيس مبارك عن اعتزامه تكوينها برئاسته لإعداد مصر لدخول القرن الجديد بالصورة التي تليق بها‏..‏ وهذه اللجنة هي الأمل‏..‏ ورئاسة مبارك لها هو الضمان‏.‏


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف