دروس أحمد زويل
مامنا دروس يمكن أن نتعلمها من حصول أحمد زويل خريج كلية العلوم جامعة الاسكندرية علي جائزة نوبل ليدخل التاريخ كواحد من أبرز العلماء الذين أثروا وغيروا في القرن العشرين.. ومادمنا لا نستطيع الآن أن نستفيد فائدة حقيقية من أحمد زويل غير ما نستفيده من رحلاته السياحية الي مصر وأحاديثه الي الشباب والي الرأي العام خلال إشارته الدائمة بوطنه الأصلي وجامعته التي بدأ بها رحلة التفوق.. فأننا نستطيع علي الأقل أن نتوقف عند هذا الحدث العالمي الكبير ونتأمل.. ونسأل أنفسنا: كيف يمكن أن يأتي يوم يتاح فيه لعالم مصري مثل أحمد زويل أن يصل الي هذه الدرجة من الابداع والتفوق ويحصل علي جائزة نوبل ـ أو ما هو أقل منها ـ علي أبحاث أجراها في معمله في مصر.. وبمعني آخر.. كيف نعيد بناء كل شيء يتعلق بالعلم, لكي نخلق البيئة الصالحة للبحث العلمي الحقيقي, وللعلماء الحقيقيين.
هذا الحلم ليس مستحيل التحقيق, وهناك دول صغيرة ومحدودة الدخل وعانت طويلا ـ مثلنا ـ من عصور الاستعمار وآثاره وأعوانه, ومن التخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي, واستطاعت بالجدية, والصدق مع النفس, بناء قاعدة علمية حقيقية ظهرت آثارها في كثير من مظاهر التفوق في العلوم النظرية وفي تطبيقاتها.. وليس من الضروري أن نعيد الحديث عن الهند التي مازالت تعاني انتشار الفقر والأمية والصراعات الداخلية ومع ذلك أصبحت لديها قاعدة من العلماء والمعامل جعلت كثيرا من علمائها يصلون الي العالمية, وجعلها تعتمد عليهم في تطوير صناعاتها, وأخيرا جعلها تصل الي انتاج القنبلة الذرية.. ولا تهمنا القنبلة الذرية في ذاتها ولكن يهمنا درجة التقدم العلمي والتكنولوجي في مجالات كثيرة لابد أن تتحقق أولا للوصول الي هذه القنبلة.. ويكفينا أن نصل الي هذا المستوي من التقدم في العلوم الأساسية وتطبيقاتها في مجالات أخري عديدة غير انتاج القنابل.. وكذلك الحال بالنسبة لتفوق علماء الهند في بناء الصواريخ والأقمار الصناعية مما يعني أنهم وصلوا الي درجة عالية من التفوق في فروع الهندسة والكيمياء والفيزياء والمواد الجديدة وغيرها من العلوم التي تمثل هذه الصواريخ والأقمار الثمرة الأولي من ثمارها.
وليست الهند وحدها التي كسرت الحصار العلمي المفروض علي دول العالم الثالث من الدول الكبري التي تحتكر العالم والعلم وتحتكر بالتالي التفوق والتقدم.. ولكن هناك أمثلة كثيرة لدول بدأت نهضتها العلمية من نقطة متأخرة من النقطة التي نقف فيها الآن.
وما يقال صحيح من ان عصور الاستعمار ـ وأعوانه ـ وراء استمرار الاعتماد علي نقل واستيراد التكنولوجيا من دون البدء بجدية في تحقيق الاستقلال العلمي, وان فقدان الاستقلال السياسي والاقتصادي لحقبة طويلة من الزمن ارتبط بفقدان الاستقلال العلمي, وكذلك فإن ما يقال صحيح من ان التخلف العلمي عند العرب والمسلمين ارتبط بتوقف الاجتهاد في ميدان الفقه, والسبب واحد وهو النظام السياسي الذي عاش فيه العرب والمسلمون قرونا من الاستبداد والقمع, وفرض الجمود علي الحياة العامة, وقتل روح التفكير والابداع, ومحاربة العقل عموما. وكانت النتيجة أيضا واحدة وهي التراجع الي الوراء واجترار أمجاد الماضي والحياة في الفردوس المفقود الذي كان يعيش فيه المسلمون الأوائل منذ مئات السنين.. واذا تعلقت العقول عند عصر بعينه دون تطلع الي الحركة والتقدم والاضافة فلابد أن يكون الثمن هذه الفجوة الواسعة بين المتقدمين والمتخلفين..
لكن الدرس الأهم في قصة نجاح أحمد زويل هو مكانة العلم والعلماء في المجتمع, وما يتوافر للباحثين من امكانات, وما يلاقونه من التقدير الاجتماعي والاقتصادي, ولم نعد ندهش حين نري دخل لاعب الكرة أو المغني الناشيء في الأفراح أو الراقصة المبتدئة أضعاف دخل أقدم وأكبر باحث علمي منقطع للبحث ومتفوق وله تلاميذ وأبحاث منشورة في أكبر المجلات العلمية.. ولا داعي هنا للاستشهاد بحالات وأمثلة.. وكذلك فإن الأموال المخصصة للبحث العلمي لا تعكس اهتماما حقيقيا بالنهوض به, فليس معقولا أن تكون كل ميزانيات البحث العلمي أقل من نصف في المائة من الدخل القومي بينما تصل في اسرائيل مثلا الي ستة في المائة, والمقارنة هنا بالنسبة المئوية وليس بالمبالغ والأرقام.. ويضاف الي ذلك أن الدول المتقدمة يعتمد تمويل البحوث العلمية علي ما تقدمه الشركات والهيئات ورجال الأعمال من إسهامات مالية, مقابل الاستفادة بنتائج الأبحاث في تطوير وتحديث المنتجات الصناعية, وليس هناك مصنع أو شركة تخلو ميزانياتها من مخصصات للبحث العلمي نتيجة الايمان بأن البحث العلمي هو الوسيلة الوحيدة لتطوير الانتاج وزيادة القدرة علي المنافسة في الأسواق الخارجية.. ونتيجة لكفاية التمويل فإن الجامعات ومراكز البحث العلمي هناك هي بالفعل مراكز لتجديد العقل, واضافة علوم وابتكارات جديدة, وهي أيضا حضانات لتفريخ أجيال متعاقبة من العلماء, وكل عالم له تلاميذ ومساعدون يعدهم ليكملوا العمل الذي بدأ فيه. ولذلك فالتقدم العلمي في هذه المراكز أشبه بسباق التتابع, كل واحد يسلم الراية لمن يليه ليكمل ولا يبدأ من أول الطريق كما يحدث عندنا.
ثم أننا لم نصل الي المرحلة التي نعطي فيها الفرصة كاملة لشباب الباحثين للاحتكاك بالعلماء وبمراكز البحث المتقدمة في الدول الكبري, والغريب اننا نتحمس جدا لمبدأ الاحتكاك الدولي اذا كان الأمر يتعلق باحتكاك الفريق القومي لكرة القدم بالفرق الأجنبية, ولا نتردد في انفاق الملايين وتنظيم الرحلات, بينما لا نبدي نصف هذا الاهتمام لاحتكاك الباحثين المصريين بمن سبقوهم في مجالات تخصصهم في الخارج.. ولا أقصد مجرد حضور المؤتمرات التي تعقد في يومين أو ثلاثة ولا تكفي إلا لمجرد المعرفة بما يحدث من تقدم هنا أو هناك, ولكن هل فكرنا في دعوة علماء كبار من الحاصلين علي نوبل للعمل في مركز من مراكز البحث عندنا لمدة سنة أو سنتين لتدريب علمائنا الشبان وللقيام بتجاربهم وأبحاثهم عندنا مما سيفيدنا في تطوير المعامل ومراكز البحث وتطوير أساليب العمل وأهم من ذلك يساعدنا علي وضع نظام نموذجي للعمل في مراكز البحث.
وقد دعا معهد وايزمان في اسرائيل مثلا الدكتور أحمد زويل فأقام فيه سنة قام خلالها بشرح نظرياته واكتشافاته, وتدريب الباحثين هناك, وبذلك بدأوا أبحاثهم بعد ذلك من حيث انتهي هو.. فلماذا لا نفعل نفس الشيء, والعلم.. كما يقال.. لا وطن له.والعلماء ـ كما يقال ـ يعملون بعيدا عن السياسة والمصالح.. وسوف نجد عشرات العلماء مستعدوين للعمل معنا في كل المجالات.
ولابد أن نفيق من الوهم بأن تقدم البحث العلمي يعني شراء وتكديس أجهزة علمية حديثة غالية جدا, دون أن نعد أولا الباحثين القادرين علي الاستفادة من هذه الأجهزة, لان الأجهزة في النهاية وسيلة للتقدم العلمي وليست الغاية النهائية, ولذلك يجب أن نتوقف عن استعراض ما لدينا من أجهزة ونعرض ما انتجه الباحثون من اختراعات واكتشافات وما حققوه من تقدم في مجالات العلم مستعينين بهذه الأجهزة.والبحث العلمي ليس عملا فرديا ولكنه عمل جماعي منظم, يعتمد التقدم فيه علي فرق بحث متكاملة, وعلي ادارة البحث والتطوير... ونحن نحتاج الي روح العمل الجماعي بدلا من ميراث الاشادة بالعبقرية الفردية, ونحتاج الي الادارة المتخصصة والخبيرة والقادرة علي تحقيق النجاح للبحث العلمي, وهذه هي مشكلة المشاكل ونقطة البداية الصحيحة التي لا نريد أن نبدأ من عندها.