لغة الخطاب السياسى
علي مدي العهود السابقة لثورة1952 كانت لغة الخطاب السياسي تعاني حالة انفصام أو ازدواج الشخصية, فكان خطاب العرش مثلا مليئا بالأماني والأحلام السعيدة حتي ان المصريين كانوا يسمونه وستعمل حكومتي لأن الخطاب كله لم يكن سوي وعود بمشروعات وأعمال مبهرة تعلم الحكومة ويعلم الناس أنها لن تتحقق, بينما تختلف لغة الخطاب السياسي في الأحاديث الخاصة التي كانت تدور في كلوب محمد علي وغيره من منتديات الباشوات والبكوات والعليمين ببواطن الأمور, لان بواطن الأمور في ذلك العصر كانت علي النقيض من ظاهرها, وكانت الحقائق حكرا علي الطبقة التي كانت تحتكر ملكية الأرض والثروة, وكان ذلك نابعا من طبيعة النظام الحاكم في ذلك العصر الذي كان يعتبر الشعب قاصرا وجاهلا وليس إلا عبيد إحساناتنا, وليس من حقه أن يعرف أو يشارك أو تكون له كلمة, ودوره الوحيد أن يتلقي النعمة من صاحب النعم.!
وبعد الثورة اختلفت لغة الخطاب السياسي, وتحولت الي نوع من التحريض العام لإيقاظ الجماهير وتحريكها وإقناعها بأن من الممكن أن يكون لها دور في حماية الثورة ومحاصرة أعدائها, ودور آخر في المشاركة في البناء, دون أن يتجاوز ذلك الي افساح مجال للشعب ليكون له دور في المشاركة السياسية واتخاذ القرار, ولذلك ظهرت فلسفة جديدة لم يعرفها الفكر السياسي من قبل بأن المشاركة الشعبية هي مشاركة الموافقة والقبول أي ان الدور الوحيد للجماهير هو السكوت, والسكوت علامة الرضا والقبول, وهكذا تكون المشاركة الشعبية. ثم تحولت لغة الخطاب السياسي بعد ذلك الي السعي الي حشد التأييد الشعبي الايجابي, وكان ذلك في اجتماعات الاتحاد الاشتراكي التي لم تكن تفعل شيئا إلا تأييد كل قرار وكل سياسة وكل حكومة..
ثم جاءت مرحلة أخري تحولت فيها لغة الخطاب السياسي الي تلوين الحقائق باللون الوردي, وكشف بعضها وإخفاء بعضها الآخر, وإغراق المواطنين في جو من التفاؤل الي حد ترديد القول إن مصر أصبحت تعيش في الرخاء الذي تحقق فعلا, ولم يعد أمام الشعب إلا أن يحمد الله علي ذلك.
ومع بداية حكم الرئيس مبارك حدث تغير جوهري في لغة الخطاب السياسي, وكان ذلك راجعا الي طبيعة شخصية وتكوين وعقلية مبارك, فهو واقعي, وعملي, وواضح, ولا يقبل الالتواء أو إخفاء الحقائق, ولعل ذلك بسبب تمرسه في قيادة سلاح الطيران, وتعامله مع طائرات وطيارين ومهام دقيقة وخطرة اذا لم يكن الطيار فيها علي علم كامل بكل الحقائق.. وبما سيواجهه فلن ينجو من الخطر, وطبيعة الطيار ألا يبدأ مهمته إلا وهو متفهم لأبعاد هذه المهمة ومدرك لنقاط الضعف والقوة في طائرته وأسلحته, ولابد أن يبلغ قيادته بكل ما يواجهه بمنتهي الصراحة والوضوع والدقة وفي نفس اللحظة دون توان.
فإذا أضفنا الي الخبرة والتكوين طبيعة الشخصية, فسنجد ان لغة الخطاب عند مبارك تتسم بمصارحة الشعب بالحقائق, وعدم اخفاء المشاكل والصعوبات, وكراهيته تلوين السلبيات باللون الوردي, بل انه لا يغضب مثلما يغضب عندما يعرف أن مسئولا كبيرا أعلن أمورا علي غير الحقيقة, أو أخفي جانبا من الحقيقة, أو أظهر الايجابيات وأخفي السلبيات, أو حجب معلومات أو قام بتغيير في أرقام.. ومثل هذه الأمور تحدث من بعض المسئولين كمحاولة لإظهار قدراتهم الخارقة, ونجاحهم غير المسبوق, واختفاء المشاكل بفضل يقظتهم وكفاءتهم النادرة, الي غير ذلك من دوافع البيروقراطية العريقة المتأصلة في نفوس بعض الكبار وكثير من الصغار.
وحين نتابع أحاديث الرئيس مبارك نجد فيها التلقائية, ونجده يتحدث الي الشعب وكأنه يتحدث الي أصدقاء أو يتحدث في جلسة عائلية مع أقرب الناس إليه.. يفضي بما في نفسه.. ولا يتردد في ذكر الأخطاء والسلبيات قبل أن يتحدث عن الايجابيات والسلبيات.. ويحرص علي أن يؤكد دائما أنه ليس صانع معجزات, وليس ساحرا, وليست لديه قدرة خارقة تمكنه من تحقيق الأحلام بين يوم وليلة, أو إصلاح تراكمات عشرات السنين في سنوات قليلة, ويكفي أن مسار العمل يتجه الي الأمام وليس متجمدا في مكانه, ويخطو بخطوات ثابتة ومنتظمة ولا يصيبه الاضطراب.
ومبدأ المصارحة الذي اتبعه مبارك منذ بداية عهده هو الذي جمع الملايين حوله, وعمق الثقة فيه, ورفع شعبيته الي درجة لم يبلغها حاكم أو زعيم قبله, وأصبحت الجماهير تثق فيما يقول, وتؤمن بصدقه, وجديته, وشفافيته, وتطلب منه أن يراقب ويراجع كل من يتولي مسئولية كبيرة أو صغيرة لكي تطمئن الجماهير الي مصداقية الجميع. وهذا أيضا ما جعل مبارك يؤكد للناس انه سيظل يتحسس رأي الناس ويلتمس المشورة ويتابع نبض الشارع.
ولكن البيروقراطية هي البيروقراطية, وهي في مصر وارثة تقاليد قديمة وأصبح جزء من تكوينها أن تخفي السلبيات, وتقدم الايجابيات بأكبر من حجمها, وتضيف من عندها أعمالا لم تتم لكي تظهر أمام رؤسائها, وأمام الرأي العام, وكأنها صانعة معجزات, وآخر مثل سمعته من الدكتور حسين كامل بهاء الدين بعد أن أعلن الحرب علي الدروس الخصوصية وفرض علي المدرسين العمل في مجموعات للتقوية بأسعار مخفضة لزيادة دخولهم وتلبية احتياجات التلاميذ وأولياء أمورهم لدروس اضافية, ثم اكتشف ان هناك مدارس أبلغت عن مجموعات تقوية, وأرسلت تقارير وكشوفا بأسماء التلاميذ والمدرسين ووردت نصيب المناطق من هذه المجموعات, واكتشف الوزير ان هذه المجموعات وهمية لا وجود لها إلا علي الورق.
هذه هي براعة البيروقراطية, وما يحدث في مدرسة أو مصلحة حكومية يحدث فيما هو أكبر وأعلي, ولكن عين مبارك الساهرة هي التي ترقب بكل يقظة, وتتابع, وتراجع, وتكتشف الحقائق, ولا تتهاون مع من يزيف الحقائق أو يصور نجاحات وهمية, والحساب دائما له وقت عنده.
من هنا يمكن أن نفهم لماذا يصغي الناس الي مبارك حين يتحدث, ولماذا يصدقون ما يقول, ولماذا يثقون في حكمته, ويقظته, ووطنيته, وولائه للشعب, وولاء مبارك للشعب هو الذي جعل ولاء الشعب له غير مسبوق.
وأكثر الذين يتولون مسئوليات العمل العام في عهد مبارك يدركون ذلك ويلتزمون به في لغة خطابهم مع الناس, ولكن من حين لآخر يظهر من يريد أن يكون الوحيد صانع المعجزات القادر علي تحقيق المستحيل, والناجح دائما, فيلزم الجميع من حوله بالصمت لكي يكون هو وحده مصدر المعلومات يقدمها علي هواه ويلونها باللون الوردي.. ونحمد الله أن هؤلاء لا يظهرون إلا بين حين وحين وسرعان ما ينكشف أمرهم ويذهب الزبد جفاء ولا يبقي إلا ما ينفع الناس في الأرض.. ونحمد الله علي أن مبارك شديد الحرص علي أن يظل قائما بدوره كمعلم لترشيد لغة الخطاب علي كل المستويات لأنه يؤمن بأن الشعب المصري بلغ الرشد وأصبح من حقه أن يعرف ويشارك ويمارس حقوقه كاملة.