تفويض بالتغيير

عندما تتدفق جماهير الشعب اليوم علي صناديق الاستفتاء لتقول نعم فإنها تعطي الرئيس حسني مبارك تفويضا شعبيا بالتغيير‏,‏ هو أقرب الي التوقيعات التي وضعها ملايين المصريين للزعيم الوطني سعد زغلول بتفويضه في تمثيل الشعب في التعامل مع الاحتلال ومفاوضات الجلاء‏,‏ وبهذا التفويض أصبح سعد زغلول وكيل الشعب وزعيم الأمة‏..‏ واليوم يعطي الشعب توكيلا للرئيس مبارك لكي يحقق المطلب الشعبي في التغيير‏.‏

ولم يحدث اجماع شعبي علي مطلب واحد كما يحدث الآن من اجماع عن التغيير‏,‏ وهذا الاجماع انعكاس لدرجة الوعي التي وصل اليها الشعب المصري‏,‏ ومدي إدراكه لما في العالم من تغيير جذري في الفكر والايديولوجيات‏,‏ وفي الأوضاع والقوي السياسية‏,‏ وفي الأهداف والوسائل‏,‏ وفي الأدوات والتكنولوجيا‏..‏ فقد أصبحنا نعيش في عالم بلا حدود‏,‏ وبلا أسوار‏,‏ ولم يعد أمر من الأمور يمكن أن يبقي كثيرا في الخفاء‏,‏ فكل الأسرار تخترق الجدران والأسوار وتصل إلي الناس العاديين في بيوتهم وتجمعاتهم‏.‏ والناس يتابعون مايجري حولهم وما يتم تطبيقه من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية في دول بلا تاريخ‏,‏ فتري أن مصر ـ بتاريخها وحضارتها ـ أولي بأن تكون في المقدمة وان تحقق الفوز في السباق الدولي علي امتلاك العلم والتكنولوجيا وممارسة الديمقراطية‏.‏

والجماهير المحتشدة اليوم لتقول لمبارك‏:‏ نعم‏,‏ تقف في الصفوف وهي مدركة بيقين ان مبارك هو الأقدر علي قيادة مصر في هذه المرحلة الدقيقة‏,‏ وهو الوحيد الذي يستطيع أن يحقق الإرادة الشعبية في التغيير الشامل بفكر مستقيم‏,‏ وبتخطيط دقيق‏,‏ كشأنه دائما في كل مايفعل‏,‏ ونموذج مبارك في التخطيط هو ضربة الطيران في حرب أكتوبر‏73,‏ التي شهدت له بمقدرة فذة في التخطيط والفكر تضعه في مصاف القادة التاريخيين‏.‏

وبنفس هذا المنهج يفوض الشعب المصري مبارك ليقود ضربة جديدة تحقق الإصلاح الشامل بعد نجاحه في قيادة الإصلاح الاقتصادي‏,‏ ليمتد التغيير إلي المجتمع كله ويشمل الإصلاح السياسي‏,‏ والاجتماعي‏,‏ والتشريعي‏,‏ والإداري‏,‏ وإن كان ما تحقق في هذه المجالات غير قليل إلا أن طموح الشعب المصري وإرادته تقصد ما هو أكثر‏,‏ وأكبر‏,‏ وأعمق‏,‏ وأشمل‏.‏

فهناك شعور شعبي بأن الجهاز الإداري للدولة تضخم بشكل غير عادي‏,‏ وتفشت فيه البلادة والإهمال وأنواع الفساد‏,‏ وهناك شعور بأن النهضة التكنولوجية التي نادي بها مبارك منذ سنوات طويلة لم تتحقق لأن المسئولين عنها قادرين علي ذلك‏,‏ وأقصي ما في قدرتهم أن يتحدثوا عن النهضة التكنولوجية‏,‏ أو أن يقيموا المباني والمنشآت‏,‏ أو أن يستوردوا بعض الأجهزة الحديثة‏,‏ وكل ذلك خارج المفهوم الذي يقصده مبارك ويريده الشعب المصري‏,‏ بينما في دول قريبة صناعات تكنولوجية تصدر ما قيمته مليارات الدولارات ونحن نستورد بما قيمته مليارات الدورات‏,‏ وحتي الآن ليست لدينا مؤسسات حقيقية للبحث العلمي‏,‏ ولا آليات للاستفادة بأبحاث العلماء‏,‏ ولا قنوات للعمل‏.‏

وهناك شعور شعبي بأن التغيير يجب أن يشمل العلاقات الاجتماعية والقيم السائدة التي تعلي الانتهازية والمادية والسعي إلي الثروة دون سلوك الطريق المشروع إليها‏,‏ وتقلب أوضاع الأسرة وتفسد العلاقات بين أفرادها‏,‏ وكذلك هناك شعور شعبي بأن هناك أشخاصا بدأوا حياتهم وهم يسكنون شققا صغيرة في أحياء متواضعة فأصبحوا يملكون القصور‏,‏ وكانت أرصدتهم في البنوك بالمئات فأصبحت بالملايين‏,‏ ومع التسليم بأن الثروة في ذاتها ليست شيئا مرفوضا‏,‏ بل هي مطلب مشروع لكل إنسان من حقه ـ بل ويجب أن نشجعه ـ أن يسعي إلي الثروة بشرط أن تكون نتيجة جهد وعمل مشروع ومصدر حلال‏,‏ ولذلك فإن التغيير هو وقفة مع الثروات لإعادة فحص أوراق اعتمادها‏,‏ فإن كانت من مصدر مشروع فليبارك الله لأصحابها ويزدهم من فضله‏,‏ وان كانت من مصدر حرام فإن هذا هو وقت الحساب ولابد أن يكون القانون حاضرا بالحسم والعدل‏,‏ وعلي سبيل المثال فإن ثروة عبقري الكمبيوتر الأمريكي بيل جيتس تجاوزت‏32‏ ألف مليون دولار وأرباحه السنوية وصلت‏70‏ إلي مليون دولار ومع ذلك فإن التحقيق يجري معه ويهدد هذه الثروة لأنه متهم بالاحتكار‏,‏ وبأنه قضي علي منافسيه في صناعة برامج السوفت وير وغير مسموح بالاحتكار في النظام الأمريكي‏.‏ مع أن ثروة بيل جيتس ليس فيها شبهة إثراء غير مشروع وكلها من مصادر معلومة من بيع البرامج التي ينتجها ويشتريها مستخدمو الكمبيوتر في كل أنحاء العالم‏.‏

وهناك شعور شعبي عام بأن التغيير يجب أن يشمل الأشخاص‏,‏ لأن استمرار الشخص الواحد في موقع واحد بغير حدود يحول شعوره من شعور المكلف والمسئول عن العمل إلي شعور المالك لهذا الموقع ويتولد في داخله ـ دون أن يقصد ودون أن يدري ـ شعور بأن من تحكم فيما يملك فما ظلم‏..!‏ ثم إن هناك أجيالا جديدة لديها طموح‏,‏ وإن كان هناك من يسعي الي قتل الطموح في النفوس وتشويه مقاصد أصحاب الطموح بأنهم من المشتاقين فإن الطموح سيبقي دافعا للعمل والتفوق والنجاح وسيبقي أصحاب الطموح هم أصحاب الرغبة في التفوق‏,‏ أما غير الطموحين وغير المشتاقين للوصول إلي مواقع القيادة فهم أصحاب شخصيات باهتة وغير مؤهلين للقيادة ولا يملكون دوافع التفوق‏,‏ وليس كل مشتاق انتهازيا كما يحاول البعض أن يقنعنا بذلك‏.‏

واليوم والجماهير تعطي التفويض بالتغيير للرئيس مبارك تقول له إنها التقطت الإشارات التي بعث بها إليها قبل الاستفتاء بأن التغيير قادم لأنه سنة الحياة‏,‏ وقد بدأ التغيير بطريقة مبارك بوضع الأساس الفكري له‏,‏ وقد تمثلت البداية في خطابه الأخير في مدينة الشروق حين طرح رؤية شملت فلسفة اجتماعية جديدة تشمل الشعب والحكومة والمجتمع‏,‏ وتشمل تحديد العلاقة الجديدة بين الفرد والمجتمع وجوهرها عقد اجتماعي يلتزم فيه الفرد بأن يقدم جهده بإخلاص وبأمانة وتلتزم الدولة مقابل ذلك بإعطائه ضمانات حياة كريمة‏,‏ والتزامها كذلك بضمان عدالة التوزيع ومنع الاستغلال والاحتكار والانحياز للأقل دخلا‏,‏ وكذلك في كلمته إلي الشعب قبل الاستفتاء التي حدد فيها تصوره للمرحلة القادمة وهي مرحلة التغيير‏.‏

نعم اليوم هو الرد الشعبي علي ما طرحه مبارك من فلسفة اجتماعية جديدة‏,‏ ومن استجابة للإرادة الشعبية التي تطلب تجديد الحياة السياسية والاجتماعية‏,‏ وتطوير الأداء في الخدمات‏,‏ وإفساح الطريق أمام طموح أجيال جديدة من حقها أن تأخذ فرصتها في وطنها‏..‏ وهي مدركة أن مبارك هو الأمل لتحقيق هذا الطموح المشروع‏.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف