رؤية اجتماعية للجريمة و المجرم
لاشك أبدا أن محاولة الاعتداء علي ركب الرئيس هي في التحليل النهائي جريمة فردية من شخص شاذ ومضطرب عقليا وليست لها دلالة سياسية يمكن الوقوف عندها, ولكن مثل هذه الجريمة ـ مهما تكن ـ لايمكن أن تمر بسهولة, أو تترك للنسيان, ولابد من إخضاعها لدراسات موسعة ومتعمقة, لان حياة الرئيس وسلامته مسألة تتعلق بالأمن القومي, وبمستقبل وحياة شعب بأكمله.
من الممكن دراسة هذه الجريمة من الناحية الأمنية, لكشف الثغرات في الحراسة والتقصير في اتخاذ الاحتياطات الواجبة للحماية, ومن الممكن دراستها أيضا من الناحية الاجتماعية علي أساس أن كل جريمة هي إفراز المجتمع ونتاج العوامل والظروف السيكولوجية للفرد وتفاعله مع الظروف والقيم الاخلاقية والقانونية والاجتماعية السائدة, ولا يأتي المجرم من فراغ, أو من خارج السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه, ولا يعيش وحده, وبالتالي فإن دراسة البيئة, والمناخ, والظروف, التي تساعد علي وجود مجرم وتغييرها أفضل من انتظار ظهور المجرم ثم مطاردته ومحاكمته.
وبتحليل سلوك المجرم الذي حاول الاعتداء علي الرئيس يلفت النظر أولا انه يعاني مرضا عقليا معروفا هو الفصام, وهذا المرض ـ كما يدرس تلاميذ المدارس ـ من أعراضه الميل الي العزلة, والانشغال بخلق خيالات يعيش فيها المريض, وسلوكه عادة اندفاعي وعدواني وغير مفهوم, وغير مقدر للمسئولية.. هذا اذا أخذنا التفسير السيكولوجي وفي هذه الحالة لابد أن نتوقع من مثل هذا المريض سلوكا يمثل خطورة علي أسرته واصدقائه, والمتعاملين معه, وتمتد خطورته الي حيث لايمكن التنبؤ بما سيرتكبه من جرائم.
وبدراسة ملف المجرم نلاحظ انه هجومي, ومندفع, وعدواني, ويتطاول علي من يتعامل معهم من الأسوياء باحترام, وهوبشكل واضح بلطجي بالمعني الدقيق لهذه الكلمة.. لايخضع لقانون.. ولا يراعي مقامات.. ولا اعتبار عنده للقواعد أو النظمم... ويضع نفسه فوق القانون بالقوة وباستغلال رغبة الكبار في عدم التصادم وسعيهم الي راحة المواطنين ففي سجله انه اعتدي علي ضابط شرطة.. واعتدي علي مأمور قسم.. بل واقتحم مكتب المحافظ السابق ووجه إليه وإلي المجتمعين معه سيلا من الشتائم لكي يحصل علي شقة ليست من حقه, وكانت النتيجة انه حصل عليها فعلا.
ما معني هذا..؟
معناه ان هناك حالة تسليم ـ أو استسلام ـ لمثل هذا السلوك الاجرامي.. وهناك قبول لمبدأ الخروج علي القانون, والنظام العام, والقيم الاجتماعية وإمكان حصول أي بلطجي علي مايريد اتقاء لشره, وهذا التسليم ـ أو الاستسلام ـ هو في حقيقته دعوة للآخرين كي يسلكوا مثل هذا السلوك..
فالقضية أولا: ان هناك مريضا عقليا يمثل خطورة علي الآخرين, تركوه مطلق السراح, يمارس سلوكه الاجرامي في البيت والسوق والشارع دون اتخاذ إجراء لحماية الآخرين من شروره.. أو لعلاجه علاجا حقيقيا إن كان ذلك ممكنا.. والقضية ثانيا: ان الجميع شاهدوا, وتقبلوا, وساعدوا, علي تعميق مبدأ التطاول, والاستهانة, واستخدام القوة والعنف كوسيلة لاكتساب المكانة في المجتمع.
ومنذ نصف قرن تقريبا بدأت حملات القضاء علي التسيب وتحقيق الانضباط في المجتمع, ونشطت فترة ثم خمدت وطواها النسيان كما هي العادة, فالحكومات المتعاقبة تبدي اهتماما كبيرا بمشروع أو بعمل ثم تلقي به الي النسيان لتشغل نفسها وتشغل الناس بشيء آخر, ومن النادر أن نجد مشروعا له صفة الدوام والاستمرار خصوصا في الحياة الاجتماعية والثقافية.. وهكذا ظل موضوع التسيب والانضباط يشغل الحكومات المتعاقبة في شكل موجات ترتفع ثم تنتهي الي السكون.. وظلت البلطجة في الأسواق والشوارع واتسع نطاقها حتي شملت السلوك العام ابتداء من اعتداء التلاميذ علي المدرسين الي اعتداء البلطجية علي رجال الشرطة أنفسهم, وهذه هي الجريمة الكبري التي ينبغي ألا يتسامح فيها المجتمع أبدا, لأنها تمثل عدوانا علي رمز القانون, وقبول الاعتداء عليه سيؤدي الي اتساع نطاق العدوان حتي يصل الي كل الرموز..!
ومفهوم سيادة القانون ليس مقصورا علي وجود مؤسسات وسلطات دستورية لادارة المجتمع, واحترام حرية القضاء وتنفيذ أحكامه, ولكنه يشمل أيضا ان يكون القانون محترما دائما بلا استثناء, وألا يكون هناك انسان فوق القانون مهما يكن موقعه أو مكانته, بل ان القانون يكون أشد واقسي علي من هم في أعلي السلم الاجتماعي, باعتبارهم هم القدوة, أو النموذج الذي يراقب الناس تصرفاتهم ويقلدونها, ويبررون الخروج علي القانون بأن هناك غيرهم يخرج علي القانون ولا يحاسبه أحد.
ولولا هذا التسيب لما أمكن لهذا البلطجي ان يتصاعد بسلوكه من الاعتداء علي ضابط شرطة, الي الاعتداء علي مأمور قسم, الي الاعتداء علي المحافظ, حتي وصل به الأمر الي الشروع في الاعتداء علي رئيس الدولة. وهذا يؤكد ان التهاون في البداية يؤدي الي أمور خطيرة في النهاية, وان معظم النار من مستصغر الشرر كما يقال.
أريد أن أصل الي ان عملية الضبط الاجتماعي مطلوبة الآن وعلي وجه السرعة وبكل الحزم.. فالتسيب في السوق والشارع وتجمعات المواطنين صغارا وكبارا في مدرسة أو ناد أو سينما أو ملعب, ليس منقطع الصلة عما يحدث من تسيب في مارينا والعجمي ومنتجعات علية القوم, أو في أسواق المال والأعمال, أو في الصحافة والنقابات, فلو طبق النظام والقانون بحسم وحزم ودون تردد أو مجاملة أو مراعاة لاعتبارات شخصية.. لو كان القانون يطبق علي الجميع بنفس القوة والدقة لكان من الممكن أن يعود الانضباط الي المجتمع, وتعود هيبة القانون ورجل القانون, وتعود هيبة الدولة وممثليها, وتعود أقدار الناس ومكانتهم.. يعود المدرس الي موقعه قدوة ومثلا أعلي ومربيا فاضلا, ويعود رجل الشرطة ممثلا محايدا وموضوعيا للقانون لا يرقي الشك الي تصرفاته وموضوعيته, ويعود المحافظ والوزير وأمثالهما رموزا تمثل الدولة قريبة من الناس وتسعي الي خدمتهم دون أن تتهاون مع من يتطاولون عليها..
وليس المهم أننا أصدرنا قانونا للقضاء علي البلطجة, لان الناس اعتادت علي كثرة القوانين المعطلة.. المهم هو أن يتحول القانون الي سلوك يومي.. المهم هو تنفيذ القانون والقاعدة.. المهم الحرص علي القيم الاجتماعية والأخلاقية.. المهم هو عدم التهاون وعدم الاستسلام لضغوط القيادات الشعبية التي تسعي الي إرضاء الناس علي حساب مصلحة المجتمع.
لقد تحدثنا عن أدانة الجريمة وهذا طبيعي, لان شعب مصر كله استنكرها ونظر الي المجرم نظرة احتقار.. ولكننا لم نتحدث عن المناخ الذي يسمح لبلطجي بأن يفكر ـ مجرد تفكير ـ في القفز من فوق سور يحدد نظام الوقوف لتحية الرئيس.. وضربه جندي الحراسة والضابط المكلفين بهذه النقطة من الطريق.. والوصول الي سيارة الرئيس..
هذه الجريمة مست المصريين جميعا.. وأصاب هذا المجرم مشاعرهم وقلوبهم.. واقيمت الصلوات في المساجد والكنائس لكي يحفظ الله الرئيس من كل سوء.. وبقي شيء واحد: هو أن نعيد الانضباط الي المجتمع بحيث لانسمح بظهور بلطجي آخر في أي موقع, أو أي مستوي, كما لا نسمح بالاسترخاء, أوالتهاون في أداء الواجب. ونحمد الله ان تدخلت عنايته لحماية مصر والمصريين من سلوك طائش هو نبت مجتمع محتاج الي الانضباط.