وظيفة حائرة

في فترة سابقة تصاعدت حرارة الحديث عن اصلاح المحليات واعادة ترتيب أوضاعها‏..‏ وجاءت علي ألسنة كبار المسئولين عبارات صريحة عن ازدياد الفساد في المحليات علي الحد الذي لا يمكن السكوت عنه‏..‏ وعن التراخي والسلبية في الأداء‏..‏ وعن التعقيدات التي يعانيها المواطنون في تعاملهم مع أجهزة الادارة المحلية‏..‏ كما تعددت اللجان والاجتماعات والتصريحات عن قانون جديد للادارة المحلية‏..‏ وعن تغيير شامل للقيادات‏,‏ وعن اعادة تقويم القيادات الحالية‏..‏ وكالعادة توقف الحديث عن الموضوع‏..‏ وانتهي الأمر بتعيين عدد من رؤساء القري والمدن وبدا كأن كل شيء قد أصبح علي مايرام وأغلق الملف‏.‏

وتوقف الحديث والاهتمام باصلاح المحليات لا يعني ان الناس قد استراحت وزالت متاعبها‏,‏ ولكنه يعني اننا فضلنا أن نؤجل النظر في هذا الجانب من الاصلاح وان نغلق آذاننا عن الاستماع الي شكاوي ومتاعب المواطنين‏.‏

ومع ان كل الذين تحدثوا عن فساد المحليات أشاروا الي الادارات الهندسية أكثر من غيرها‏,‏ فإن هذه الادارات بالذات لم يحدث فيها أي تغيير‏..‏ ومازالت كما هي‏..‏ بعض الادارات يعمل فيها موظفون ليسوا مهندسين مؤهلين‏..‏ وبعضهم لا علاقة له بالهندسة من قريب أو بعيد‏..‏ وبعض الادارات فيها مهندسون لهم مكاتب خاصة ويشترطون أن تكون كل الرسومات الخاصة بالمباني عن طريق مكاتبهم لكي يمرروها من الادارات التي يشرفون عليها‏..‏ وبعض الادارات فيها مهندسين منذ عشرين عاما وأكثر استطاعوا خلالها أن يحولوا هذه الادارات الحكومية التي يفترض ان تخدم الناس بالمجان الي ادارات قطاع خاص‏..‏ والقصص كثيرة ليست مجهولة‏,‏ وليست خافية‏,‏ وتقارير أجهزة الرقابة أكثر مما يجب حول هذا الموضوع‏.‏

وقيل كثيرا انه سيتم ايجاد صيغة فعالة لاشراك المواطنين أنفسهم في اختيار وتخطيط وادارة المشروعات‏..‏ وقيل أيضا ان ديمقراطية الادارة تقتضي ألا ينفرد الموظفون بادارة المرافق المتصلة بمصالح الناس‏,‏ بل يجب ان يشارك الناس في ادارة هذه المرافق‏,‏ فلا تكون ادارة المستشفي حكرا علي مديره وحده ولكن يجب أن يكون الي جانبه مجلس ادارة يمثل فيه أهل المدينة أو القرية ليصل صوتهم اليه ويكون وجودهم ذا نفع من ناحيتين‏..‏ من ناحية المدير والأطباء والممرضين لاحساسهم بأن عيون أصحاب المصلحة مفتوحة تراقبهم وتسجل عليهم السلبيات والانحرافات والاهمال‏..‏ ومن ناحية الناس بأن يشعروا بأن المستشفي ليس مملوكا للحكومة وحدها ولاشأن لهم به‏,‏ ولكنه مملوك للمواطنين وعليهم أن يتحملوا مسئوليتهم مع الدولة في النهوض به واستكمال النقص فيه وحسن قيامه برسالته‏..‏ فلا يبخلون بمساعدة مالية أو بتقديم خدمات للمستشفي من المجتمع والأفراد لتمكينه من خدمتهم بصورة أفضل‏..‏

وقيل أيضا ان هذا الاسلوب الحضاري في الادارة يمكن أن يكون في المدرسة وفي كل ـ أو معظم المرافق التي تقدم خدمات مباشرة للمواطنين‏..‏ علي الأقل لكي نقضي علي رواسب وبقايا عصور تركت في نفوس الناس شعورا بأن ما تملكه الحكومة لايهمهم وما علي الحكومة إلا أن تقدم لهم خدماتها دون أن يشعروا بأنهم هم أيضا يجب أن يسهموا في تطوير وتحسين هذه الخدمات‏..‏

قيل انه لو ساد لدي الناس شعور بالقضاء علي الفساد في المحليات فسوف يتقدمون من تلقاء أنفسهم للمشاركة ولن يبخلوا بأموالهم وجهدهم‏,‏ لان ما يمنعهم الآن هو شعور بأن ما يقدمونه سوف يذهب الي الموظفين بصورة أو بأخري ولن يصل الي طريقه الصحيح ولن يؤدي الي تطوير أو تحسين‏..‏

وقيل أيضا ان رؤساء المدن يتم تعيينهم دون تدريب كاف ودون أن يكون واضحا علي أي أساس سوف يتم تقويم ادائهم ويتم الحكم عليهم بالنجاح أو الفشل‏..‏ وقيل ان رئيس المدينة موظف ليس في يده سلطات لان القانون جعل السلطات في يد المحافظ‏,‏ بينما يقع اللوم والعقاب دائما علي رئيس المدينة‏,‏ وهو طبقا للقانون يشرف علي الكهرباء والمياه والصرف والتعليم والصحة في المدينة‏,‏ ويشرف أيضا علي المخابز والمطاعم‏,‏ ولكن القانون لم يحدد سلطاته في هذه المجالات ولا في غيرها‏..‏ فهو لايملك اصدار قرار بازالة الاشغالات مثلا‏..‏ ولا يملك منح مكافأة لموظف مجتهد متميز‏..‏ وحتي الآن ليس هناك كادر خاص لرئيس المدينة‏,‏ رغم أنه يتعامل مع مقاولين وموردين‏..‏ ورغم أنه شماعة تعلق عليها كل الأخطاء‏..‏ ويداري المحافظون كل قصور بأن يصدروا قرارات وقف رئيس المدينة‏,‏ أو نقله أو احالته للتحقيق‏..‏ فهو موظف له وضع خاص جدا‏..‏ عليه أن يقبل الهجوم من فوق ومن تحت‏..‏ من المحافظ والوزراء والحكومة كلها‏..‏ ومن أهل المدينة طبعا‏..‏ وعليه أيضا أن يتحمل ضغوط أعضاء مجلس الشعب وأعضاء المجالس المحلية الذين يريدون ارضاء الناس علي حساب القواعد والقانون‏..‏ واذا رفض أصبح هدفا للسهام المسمومة‏..‏ واذا رضخ وجد نفسه أمام النيابة‏.‏

وليس لرئيس المدينة نظام محدد يبين من أين يتم اختياره‏..‏ وما هي الاشتراطات الواجب توافرها فيه‏..‏ وما هو السلم الوظيفي الذي جعله يعرف طريقه في الترقي‏..‏ وكل انسان من حقه أن يكون هدفه الترقي وتحسين وضعه مادام مجتهدا في عمله‏..‏

قيل أيضا ان المحليات تعاني صراع سلطات وتضارب اختصاصات وليست هناك حدود واضحة لسلطات الوزير والمحافظ أو سلطات المحافظ ورئيس المدينة‏,‏ أو سلطات رئيس المدينة والمجلس المحلي‏..‏ والأمور تخضع لمنطق القوة‏..‏ فالأقوي هو الذي يمسك زمام الأمور ويتولي التوجيه والقيادة‏,‏ واحيانا يتولاها من هو خارج كل هذه الدوائر من أصحاب الكلمة والنفوذ والشخصيات العامة ورجال الأعمال‏.‏

وقيل إنه سيتم انهاء الصراعات بين السلطات والاختصاصات لا علي أنه صراع شخصي‏,‏ ولكن علي أنه نتاج خلط في المفاهيم وقصور في القانون وعدم الحزم في التعامل دون تردد ودون خضوع للوساطات أو الضغوط‏..‏

وقيل ان المرحلة القادمة سيتم فيها تحديد موقع رئيس المدينة باعتباره المسئول عن خط الدفاع الأول والمسئول مباشرة عن التنفيذ‏..‏ هل هو قيادة أم مجرد موظف‏..‏ هل له حق اصدار القرارات وفقا للظروف وبمرونة وبتقدير للملاءمة أم هو ملزم بالتنفيذ الحرفي لما يصدر اليه من تعليمات‏.‏

ويبدو ان الادارة المحلية في مصر لم تأخذ حقها من الدراسة الهادئة في ضوء الواقع وبعيدا عن الانحيازات والمصالح الشخصية‏..‏ وعلي الأخص وضع رئيس المدينة‏..‏ لأنه هو المسئول عن العمل‏..‏ بينما لا ينسب اليه العمل اذا أجاد‏..‏ وينسب اليه فقط اذا ظهر خطأ أو انحراف‏..‏

هذه الوظيفة القلقة‏..‏ الهلامية‏..‏ غير المحددة‏..‏ ماذا يمكن ان ننتظر من شاغلها‏..‏

واذا كان الحديث عن المحافظين طويل‏..‏ فإن الحديث عن رؤساء المدن أطول‏..‏ والبدء بهم هو البداية الصحيحة لإصلاح المحليات‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف