درس من بالميرو
درس من بالميرو
كيف يمكن القضاء علي الارهاب والجريمة المنظمة, وتجارة المخدرات, والفساد, بعد أن أصبحت هذه الجرائم من الظواهر العالمية ولا يخلو بلد في العالم منها حتي أصبح الخبراء يقولون ان العالم يعيش الآن في عصر انفجار الجريمة, كما يعيش في عصر انفجار المعلومات..؟
هذه الجرائم التي انتشرت في العالم كالوباء كانت الموضوع الأول لمؤتمر دولي كبير عقد في مدينة باليرمو عاصمة جزيرة صقلية الايطالية, واحتشد فيه عشرات من الخبراء وممثلو الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ورجال الحكم في أوروبا, وتحدثت في جلسة الافتتاح هيلاري كلينتون ودعت اليه منظمة سيفتاس العالمية, وهي منظمة غير حكومية لها فروع في معظم دول العالم تدعو الي تعميق مفاهيم التربية المدنية, في كل مراحل التعليم, وفي الأسرة, وفي الاعلام, والمجتمع, بحيث تشمل كل المواطنين من كل الأعمار وتغير المجتمع ليصبح مجتمعا متحررا من الخوف والاستبداد.. ومفاهيم التعليم المدني التي تدعو هذه الجمعية الي جعلها جزء من ثقافة المجتمع, هي احترام حقوق الانسان, والديمقراطية, والتسامح, وحل الخلافات سلميا وليس بالعنف, وعدم التفرقة علي أساس الجنس أو الدين, وقبول التعددية والاختلاف, فالناس مختلفون بحكم طبيعة تكوينهم, ولا يمكن صبهم في قالب واحد, وبالتالي لايمكن تصور أن يكون هناك تطابق تام بينهم في أي مجتمع, فالاختلافات موجودة داخل كل بلد ولكن هناك إطارا واحدا ـ هو الوطن والوطنية ـ يجمع بين هؤلاء المختلفين, ويربط بينهم برباط متين من وحدة الثقافة والتاريخ, ودول الاتحاد الأوروبي, أو الدول العربية, بينها اختلافات, ولكن هناك قاسما مشتركا يجمع بينها.. وهناك اختلافات في الثقافات بين الشعوب ولكن هناك أيضا تداخل الثقافات, وهذا التداخل الثقافي يقرب المسافات, ويملأ الفجوات بين الدول والشعوب, ويجعل التفاهم بين المختلفين ممكنا دون لجوء الي القوة.
هذه الفلسفة للتعليم الشامل بمفهومه الواسع الذي يعني تعليم جميع المواطنين في جميع مراحل حياتهم لتعميق قيم الديمقراطية وحقوق الانسان والتسامح لتكون هي ثقافة المجتمع, واعداد المواطن منذ طفولته ليكون عضوا ايجابيا ونافعا في مجتمعه, وتدريبه مبكرا علي تحمل المسئولية, ومعرفة حقوقه وواجباته, والناس عادة يتحدثون عن الحقوق ولا يتحدثون عن الواجبات, والمدرسة هي المكان الذي يجب أن يغرس في كل انسان فكرة الواجب, ويعوده علي القيام بواجباته طواعية عن اقتناع بأنه لن يحصل علي حقوقه كاملة إلا اذا أدي واجباته كاملة تجاه الآخرين وتجاه المجتمع.
وفي هذا المؤتمر كانت تجربة باليرمو هي الدرس العملي أمام ممثلي73 دولة, ففي جزيرة صقلية نشأت المافيا منذ مائة سنة, وتحولت الي قوة طاغية سيطرت علي الجزيرة وحكمتها واخضعت كل مؤسساتها ومواطنيها لها, ثم انتشرت في كل أنحاء ايطاليا, وأصبحت هي المحركة للحكومات, ومؤسسات الدولة, ورجال الأعمال, والأحزاب السياسية, وتشابكت العلاقات والمصالح بين رجال المافيا ورجال الحكم ورجال المال والأعمال والبوليس وقادة الأحزاب وأعضاء المجالس التشريعية.. وأوشكت أن تكون البديل للكنيسة بعد أن تحالفت الكنيسة مع المافيا, بل أوشكت أن تكون البديل عن المجتمع كله, بعد أن نجحت في جذب وتجنيد عناصر من الأطفال والشباب ممن لديهم مشاكل أسرية وسيكولوجية, وانحرافات سلوكية, وميول للعدوان تجاه المجتمع, أو رغبة في القيام بمغامرات..
ولم تأت المافيا من خارج ايطاليا, ولكنها تولدت من الداخل نتيجة أسباب وعوامل داخلية, أهمها صراعات القوي والمصالح, واستعانة كل فئة بهذه العصابات ضد الآخرين.. فكانت في البداية السلاح في صراع مباديء ضد مباديء.. وقيم ضد قيم.. ثم تحولت الي قوة طاغية تعمل لتحقيق أهدافها لهدم المجتمع ونشر الفوضي..
وفي الخطاب السياسي لم يكن أحد يجرؤ علي ذكر المافيا علنا في أي مكان, بعد أن قتلت عددا من رؤساء حكومات ووزراء وكتاب ورجال الدين وقضاة وكبار رجال الشرطة, ولكن عمدة باليرمو ليو لوقا أورلاندو كان أول من تجرأ وهاجم المافيا علنا في الاجتماعات العامة وفي التليفزيون, وشجع الناس علي إعلان رفضهم الإرهاب, وازال من نفوسهم الخوف وهو المناخ الذي يسمح بانتعاش عصابات الارهاب..
وكانت رسالة عمدة باليرمو هي ان المجتمع كله يجب اعداده لمقاومة الارهاب, وان محاربة الارهاب تبدأ في العقول وبالفكر, ويتكامل دور القانون مع دور الكنيسة ودور المدرسة ومشاركة المواطنين, وبذلك تضيق الحلقة علي الارهاب, ويفقد سيطرته علي الناس وقدرته علي نشر الذعر بينهم, وبذلك يتحقق الانتصار علي الارهاب.. وبفضل جهود عمدة باليرمو بدأ المواطنون العاديون يتمردون علي الخضوع لسيطرة المافيا, ويرفضون طاعة قادة العصابات وتقبيل أيديهم, ودفع الأتاوات التي يفرضونها عليهم.. واستطاع العمدة تجنيد المدرسين ليشاركوا في تحويل المدارس من حفظ وتلقين مباديء الديمقراطية وحقوق الانسان نظريا الي ممارسة هذه المباديء عمليا في النشاط والجماعات المدرسية وفي مشاركة التلاميذ أنفسهم وأولياء أمورهم في ادارة المدرسة, مما أعاد الي الجميع الشعور بالانتماء والاحساس بالمسئولية الاجتماعية, وآمن الجميع بأن محاربة الارهاب ليست قضية بوليسية فقط ولكنها في الأساس قضية اجتماعية وتربوية وثقافية.. هي قضية اعداد المجتمع لمقاومة الارهاب والجريمة, وتعليم المواطنين حل الخلافات سلميا وبالعقل والقانون ومباديء العدالة وليس باستخدام القوة.
وكما قال عمدة باليرمو أمام المؤتمر ان حملته بدأت بالفكر والتربية وباقناع المواطنين بأن يتحركوا ويتحملوا مسئوليتهم وألا يكتفوا بدور المراقب أو المنتظر لما يفعله الآخرون.. وباعطاء الشباب الأمل في أن المستقبل سيكون أفضل اذا تم القضاء علي الارهاب والفساد والجريمة.
وقال عمدة باليرمو أيضا إنه حدد هدفه في تعليم كل طفل في مدرسة كيف يحترم نفسه ويحترم الآخرين ويحترم النظام والقواعد, وكيف يتحمل المسئولية ويتخذ القرارات لنفسه بنفسه, وكيف يثق في قدرته علي تحدي الارهاب.. وبتعليم التلاميذ ان لكل فرد الحق في نقد القانون السائد والمطالبة بتغييره, ولكن عليه في نفس الوقت واجب احترام القانون والخضوع له الي أن يتم تغييره.
وكان هذا المؤتمر فرصة لطرح الأفكار والتجارب حول كيفية تعميق مفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان وتحويل هذه المفاهيم من موضوعات للحديث الي سلوك وممارسة في الحياة اليومية.. وهذه هي مسئولية كل مؤسسات التعليم والثقافة والاعلام.. وعلي أساسها يقاس نجاح كل منها في تحقيق رسالتها, وهذا هو الدرس الأول من باليرمو.