مخاطر النظام الإعلامى الدولى الجديد

كان الموضوع الرئيسي في مناقشات المجلس القومي للثقافة أمس هو‏:‏ الاعلام المصري وتحديات العولمة وكانت الدراسة الجادة التي حوتها ورقة العمل‏,‏ ومناقشات الخبراء والمفكرين البارزين من أعضاء هذا المجلس هي المشاركة التي تليق بالمجالس القومية المتخصصة في مناسبة عيد الاعلاميين‏.‏

ودون تكرار لأحاديث الزهو بما تحقق من انجازات في الاعلام المصري‏,‏ هناك قضايا جادة لابد ان نفكر فيها‏,‏ وننشغل بها‏,‏ ونحاول ايجاد حلول للمأزق الذي سنجد أنفسنا فيه مع الدول التي تماثلنا في مواجهة التحدي الأكبر‏,‏ وهو تحول النظام الاعلامي الدولي من ثنائية السيطرة والسيادة الاعلامية‏,‏ بين النظام الاعلامي الغربي والنظام الاعلامي الاشتراكي‏,‏ الي أحادية السيطرة والسيادة الاعلامية‏,‏ الذي انتهي الي هيمنة قطب واحد علي هذا النظام هو الولايات المتحدة الأمريكية‏.‏ والي جانب هذه الحقيقة هناك حقيقة أخري نبهت اليها ورقة العمل المقدمة الي المجلس القومي للثقافة‏,‏ مع وجود هذه الأحادية في السيطرة والسيادة الاعلامية‏,‏ ظهرت داخلها ثنائية جديدة تقوم علي هيمنة عدد قليل من الدول المتقدمة علي غالبية الدول النامية‏,‏ أي هيمنة من جانب وتبعية من جانب‏..‏ فأغلب المؤسسات الاعلامية الدولية مملوكة للدول الاستعمارية القديمة‏,‏ وهي التي تحتكر نسبة كبيرة من مصادر المعلومات المستخدمة في دول العالم الثالث‏,‏ وتكاد تنفرد ثلاث وكالات أنباء غربية بالسيطرة علي حركة تدفق الاخبار الدولية‏,‏ وهي‏:‏ وكالة رويتر البريطانية‏,‏ ووكالة الأنباء الفرنسية‏,‏ ووكالة اسوشيتدبرس الامريكية‏,‏ ولكل منها مكاتب في أكثر من‏150‏ دولة ولها آلاف من المراسلين والمحررين وتبث الاخبار علي مدار الساعات الأربع والعشرين وتنقل عنها كل وسائل الاعلام في دول العالم‏,‏ من صحف ومحطات اذاعة وتليفزيون ووكالات أنباء وطنية‏,‏ ولابد أن نضيف اليها شبكة سي‏.‏ ان‏.‏ ان الأمريكية التي أصبحت قوة مسيطرة ذات نفوذ اعلامي كبير علي مصادر الاخبار‏,‏ والمحللين‏,‏ وقادة الدول‏.‏

ودراسة المجلس القومي للثقافة تنبهنا الي مايجري من اغراق المجتمعات النامية من سيل الرسائل الاعلامية المعبرة عن متطلبات تسويق منتجات الشركات متعددة الجنسيات بحيث تحولت وسائل الاعلام في كل دول العالم الي الثقافة التجارية‏,‏ ويمكن أن نضيف أيضا ان هذه الرسائل الاعلامية لا تسعي الي تسويق المنتجات وفتح شهية الشعوب النامية الي الاستهلاك وتقليد المجتمعات الصناعية الغنية في السلوك الاستهلاكي وما يسميه الخبراء سفاهة الاستهلاك‏,‏ ولكن وسائل الاعلام المسيطرة دوليا تعمل‏-‏ دون كلل وبكل الوسائل وأكثرها حرفية وذكاء‏-‏ علي تسويق الافكار والمباديء والفلسفة وأساليب السلوك الغربية‏,‏ والأمريكية علي وجه التحديد‏,‏ وهدفها الوصول الي أمركة العالم أي جعل شعوب العالم‏-‏ أو أكثرها‏-‏ تفكر وتعيش وتستهلك باسلوب الحياة الأمريكية‏,‏ فهذا يجعل الاعجاب باسلوب الحياة الأمريكية يتحول الي اعجاب بالسياسات والمواقف الامريكية‏,‏ وبالتالي تحقق امريكا انتصارها الأكبر بالسيطرة علي أوسع رقعة من العالم بتحويل شعوبها‏-‏ دون أن تدري‏-‏ الي أن تصبح ذات هوية أمريكية‏,‏ تحت شعارات جميلة مثل العولمة‏,‏ وتحول العالم الي قرية واحدة‏,‏ وانتهاء عصر القوميات‏,‏ والحدود‏,‏ والوطنية‏,‏ وذوبان العالم في كيان ثقافي وحضاري واحد‏..‏ الي غير ذلك من الشعارات الجديدة البراقة التي تعبر عن الصورة الظاهرة للعولمة‏,‏ وتخفي حقيقة العولمة‏,‏ وهي تحويل العالم الي قرية واحدة تحكمها امريكا لتصبح أكثر قوة وأكثر ثراء‏,‏ ولو علي حساب معظم دول العالم‏..‏ وهذا ما ينبه اليه مفكرو الغرب أنفسهم الآن‏.‏

فاذا أضفنا الي ذلك ان غالبية وسائل الاتصال والاعلام المستخدمة في الدول النامية صنعت خارجها‏,‏ بعد أن فشلت الدول النامية في تحقيق ما تسميه دراسة المجلس القومي للثقافة الأمن التكنولوجي في مجال الاعلام والاتصال‏,‏ وبعد ان فشلت الدول النامية في اقامة تعاون مشترك مع مثيلاتها من الدول النامية في استخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة ذات التكلفة المرتفعة‏.‏

ومن المفيد أن نتنبه الي ما تقرره الدراسة من ان العولمة ستؤدي الي مسارين متناقضين‏,‏ سيؤدي المسار الأول الي اعطاء مزيد من الحريات لوسائل الاعلام‏,‏ حتي تتواءم أوضاعها الاعلامية مع النظام الغربي الذي يقوم علي الليبرالية من حرية وتعددية‏,‏ أما المسار الثاني فسيقود الي مزيد من التبعية الاعلامية‏,‏ لان النظام الاعلامي الدولي الجديد لن يسمح إلا بقدر محدود من الحرية لوسائل الاعلام في العالم الثالث بالقدر الذي يكفي وسائل الاعلام الغربية للتسلل والسيطرة علي وسائل الاعلام والثقافة في الدول النامية‏,‏ والغاء القيود التي تعوق حصولها علي كل المعلومات عن كل شيء في كل دولة من دول العالم الثالث‏,‏ في زمن أصبحت فيه المعلومات قوة لا تقل عن القوة الاقنصادية‏,‏ والقوة العسكرية‏,‏ بل هي القوة التي تعتمد عليها الدول لزيادة القوة في كل المجالات‏.‏

ومن هذا التحليل نصل الي ضرورة وجود استراتيجية عربية موحدة‏,‏ لان دولة عربية واحدة لن تستطيع توفير الأموال والكوادر والتكنولوجيا اللازمة لمنافسة وسائل الاعلام الكبري التي تكاد تنفرد بالساحة الدولية تقدم لها ما تشاء من معلومات وأفكار تخالف الواقع الذي يعيشه المجتمع المصري والعربي‏,‏ وتعمل علي تضخيم السلبيات‏,‏ وتقديم الحقائق مبتورة‏,‏ والتعتيم علي الايجابيات‏,‏ وترسيخ صورة سيئة لمصر والعرب والمسلمين في الثقافة الغربية عامة والثقافة الأمريكية بصفة خاصة‏.‏ وهذا ممكن في مناخ يفتقر الي العدالة في النظام الاعلامي الدولي الراهن‏.‏

هذه التحذيرات الصادرة من المجلس القومي للثقافة والتي لم تصل بعد إلي قادة الرأي وأصحاب القرار يجب أن تكون موضع حوار واسع‏,‏ لانها لا تتعلق بالاعلام فقط‏,‏ ولكنها تتعلق بالهوية الوطنية‏,‏ وبالمستقبل الاقتصادي والسياسي والثقافي‏,‏ وبمكان مصر والعرب في القرن القادم المليء بالاحتمالات والمخاطر‏.‏

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف