أصداء من لقاء حكماء العالم

تابعنا في الاسبوع الماضي حوارات عميقة ومثيرة علي مستوي رفيع من الفكر والاحساس بالمسئولية‏,‏ استمرت علي مدي ثلاثة ايام‏,‏ في لقاء حكماء العالم الذي ضم شخصيات لها ثقلها ووزنها الدولي‏,‏ تولوا الحكم في دول كبري‏,‏ فاكتسبوا القدرة علي الرؤية الصحيحة والشاملة للعالم ككل‏,‏ واصبحوا بعد ان ابتعدوا عن قيود واعتبارات المناصب الرسمية الكبري‏-‏ قادرين علي ان يقولوا كلمة الحق مدوبة صريحة وواضحة وبعبارات مباشرة‏,‏ اما القضايا التي نوقشت والافكار التي طحرت والتوصيات التي اتفقوا عليها في نهاية الحوار فهي ثروة فكرية تحتاج إلي جهد متصل من المفكرين والمثقفين للحفاظ عليها حية وعدم اعطاء الفرصة لمن لهم مصلحة في دفعها إلي طي النسيان‏.‏

ولابد أن نتأمل طويلا‏,‏ ونتناول بالتحليل افكارا مليئة بالدلالات يمكن ان تغير الكثير من اوضاع العالم اليوم لتنقله من عالم مليء بالصراعات والتوتر والمخاوف‏,‏ ومليء بالتناقضات بين ماتعلنه الدول الكبري وماتفعله‏,‏ وبالتناقضات بين تراكم الثروة في جانب وتراكم الفقر في الجانب الآخر‏.‏

عندما تأمل حكماء العالم احوال العالم اليوم وجدوا امامهم صورة غير مطمئنة‏.‏

وجدوا امامهم قضية العولمة وجدوا انها في جانبها الاقتصادي تمثل خطرا علي الدول الصغيرة‏,‏ ولم تحقق للدول الصغيرة إلا عقبات امام مشروعاتها للتنمية‏,‏ وانخفاضا في اسعار المواد الأولية والثروات الطبيعية التي تمثل المصدر الاساسي لاقتصادها‏,‏ واغلاق الباب امامها بحيث لم تعد قادرة علي دخول الاسواق العالمية والمنافسة مع الكبار‏,‏ وبالتالي زادت مديونيتها ومشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وترتب علي ذلك انتشار التوترات والفقر والازمات السياسية‏,‏ بينما الدول الكبري تضغط بكل قوتها لكي تفرض العولمة بمفهومها هي الذي يزيد الاقوياء قوة ويزيد الضعفاء ضعفا‏,‏ ويزيد الاغنياء غني ويزيد الفقراء فقرا‏,‏ ولن تكون هناك نتيجة في النهاية إلا انفجار الاوضاع هنا وهناك‏,‏ وتعجز الدول الفقيرة عن الاستيراد من الدول الغنية نتيجة عجزها عن التصدير‏,‏ ويجد النظام الجديد للتجارة الدولية نفسه في ازمة يمكن ان توجه إليه ضربة قاصمة كما قال الرئيس مبارك في كلمته الافتتاحية‏.‏

علي ان هناك قضية أخري أثارها الرئيس مبارك ايضا وطرحها بصورة منطقية ومتكاملة‏,‏ وبلور بكلمات محدودة نظريته عن العلاقة بين الحضارات والثقافات في مواجهة النظرية الرائجة في الغرب الآن‏,‏ والتي تعمق الشعور لدي المثقفين والقادة السياسيين والعسكريين وبين الرأي العام ايضا‏,‏ عن حتمية الصراع بين الحضارات‏,‏ وإذا كنا نأخذ هذه النظرية علي أنها مجرد اطروحة لبعض المفكرين يمارسون من خلالها نوعا من الرياضة العقلية‏,‏ ولايمكن ان يمتد تأثيرها إلي النطاق العملي‏-‏ السياسي والعسكري‏-‏ إلا أن هذه النظرية الغربية التي ظهرت وانتشرت فجأة تحولت إلي عقيدة واستراتيجية للدول الكبري‏,‏ وحلف الاطلنطي واصبحت موضع بحث في وزارات الخارجية وبين رؤساء الدول والقادة العسكريين لاعداد خطط العمل ومقالها

ومن الغريب بل من المذهل ان تتحول نظرية حتمية الصدام بين الحضارات إلي حتمية الصراع بين الغرب والإسلام ثم تزداد في هذا الاطار الحملة لتشويه صورة الإسلام في العالم وتقديمه للشعوب الغربية علي انه الخطر الرئيسي علي الغرب بعد زوال خطر الشيوعية وانه دين جوهره الصراع مع المخالفين له في العقيدة والعدوان علهيم‏,‏ وانه دين يسمح بالاعتداء علي غير المسلمين ويسمح بنشر العدوان من المجتمعات المحلية إلي الساحة العالمية وهو بهذا خطر علي الحضارة والتقدم الذي حققته البشرية في العلوم والتكنولوجيا والفكر والحضارة‏,‏ ويوما بعد يوم تزداد الحملة السياسية والاعلامية وتعقد ندوات ولقاءات دولية وتنشر ابحاث اكاديمية بكل اللغات الغربية لتقدم الدليل النظري والعمل علي ان الإسلام والارهاب وجهان لعملة واحدة حتي اصبح رجل الشارع في بعض الدول الغربية يؤمن بان كل مسلم إرهابي‏,‏ وان كل إرهابي لابد أن يكون مسلما حتي ولو انكر ذلك‏!‏ وتتبدد في الهواء المحاولات التي تقوم بها بعض الدول والمؤسسات الإسلامية لتوضيح ان الإرهاب لاعلاقة له بجوهر الدين الإسلامي‏,‏ وانه موجود في كل الدول وكل الاديان‏,‏ فهناك تطرف بين المسيحيين واليهود بمثل التطرف بين المسلمين ولهذا التطرف اسبابه ولكن ليس هناك دين يدعو إلي العدوان والإرهاب وليست هناك رسالة من السماء تدعو اتباعها إلي سفك الدماء‏.‏

الخطير في هذه الاتجاهات الغربية المريبة هو مانبه إليه الرئيس في لقائه مع حكماء العالم وهو ماادت إليه هذه الافكار الغريبة من ردود فعل سلبية في المجتمعات الإسلامية حتي ان قطاعات من المثقفين في العالم الإسلامي اصبحت تري في هذه الافكار دليلا علي عدم امكان التعايش مع الغرب مادام الغرب يحمل في عقله كل هذا العداء وكل هذه الكراهية وكل هذا التخوف من الإسلام والمسلمين ووجدت النظرية المضادة رواجا في العالم الإسلامي‏,‏ وهي النظرية التي يتبناها البعض بان الغرب يهدف إلي فرض سيطرته‏,‏ واستخدام قوته لاستغلال الشعوب الإسلامية وقهرها وممارسة صورة جديدة من السيطرة الاستعمارية عليها‏.‏

هذه الرؤية التي طرحها الرئيس مبارك هي التي تعبر عن الوجدان الشعبي والعقل الإسلامي في مواجهة هذه الهجمة الجديدة‏..‏ وقد اقترح الرئيس مبارك الحل بالعمل علي انجاح مشروع الأمم المتحدة لجعل عام‏2001‏ عاما دوليا للحوار بين الحضارات‏,‏ ودعم مبادرة الرئيس الألماني هيرتزوج للحوار بين العالم الإسلامي والغرب‏,‏ والدعوة إلي مؤتمر دولي يشارك فيه المفكرون والفلاسفة والمبدعون في مناطق العالم المختلفة لوضع تصور لكيفية تعاون الحضارات‏,‏ واعتقد ان تأييد حكماء العالم لهذا التصور يعني تأييدهم ايضا دعوة مبارك إلي اعطاء هذه القضية اولوية باعتبارها القضية الأولي في قائمة اهتمامات السياسة الدولية‏,‏ وليست مجرد موضوع اكاديمي يختص به المثقفون وحدهم‏,‏ فهذه النظرية عن صراع الحضارات وان كانت تبدو للبعض قليلة الأهمية وغير منطقية ولاسند لها من الواقع أو النصوص القرآنية المقدسة في الإسلام إلا أنها وقد اخذت شكلا آخر في الغرب‏,‏ وتحولت من النظرية إلي التطبيق‏,‏ ومن الفكر إلي التصرفات والأعمال‏,‏ فإنها بحق خطر يمكن ان ينتج عن تداعياتها شر مستطير‏.‏

لقد اثار حكماء العالم قضايا كثيرة وان كانوا قد غادروا القاهرة إلا ان اصداء افكارهم المضيئة مازالت متوهجة في القاهرة وامتدت اشعاعاتها إلي العالم دون شك وصوت الحكمة دائما لايذهب هباء وكل فكرة بناءة مثل كل بذرة طيبة تتعمق جذورها وترتفع زهورها وتؤتي ثمارها ولو بعد حين‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف