ثقافة الاستهلاك و ثقافة التنمية
في خطاب عيد العمال ألقي الرئيس مبارك علينا مسئولية كبيرة. ولابد الآن من وقفة مع أنفسنا قبل أن تكون لنا وقفة مع غيرنا.. فقد تعودنا أن نطالب الدولة بالعمل, ونعتمد عليها اعتمادا كاملا في تحقيق الآمال والأهداف.. ولابد ان ندرك ان فلسفة العمل الوطني قد تغيرت وأصبح للمواطنين دور لايقل عن دور الدولة.. وفي ظل هذه الفلسفة يجب أن يسأل كل مواطن نفسه أمام كل قضية من قضايا التطوير والتنمية: ماذا يجب علي أن أفعل لاشارك في التنفيذ.. وهذه المشاركة من المواطنين هي الضمان الحقيقي لنجاح السياسات الجديدة التي أعلنها الرئيس.
وربما كانت القضايا الرئيسية أمام مصر الآن والتي تمثل التحديات الكبري تتلخص في: ضبط وترشيد السلوك الاستهلاكي, وزيادة الادخار, والتوجه بقوة أكبر نحو التصدير. وبقدر النجاح الذي يتحقق في هذا المثلث الذهبي للرخاء سيكون نجاحنا في حل مشاكل الفقر, والبطالة, والتخلف.
ولقد أصبح شيوع الاستهلاك المظهري أو الترفي مثار الشكوي, ومع تناقص التصدير يزداد الاستيراد لسلع تمثل سفاهة في الاستهلاك, فليس معقولا في بلد اشتهر بزراعة الفول أن يستورد الفول من الخارج, بل ويستورد بودرة الطعمية, وحتي الطائرات الورقية وفوانيس رمضان وسجاجيد الصلاة والسبح وأمثال هذه السلع التي لايمكن أن تدخل في قائمة الضروريات أو في قائمة السلع التي لايكفي الانتاج المحلي لمواجهة الطلب عليها.. وربما تكون السفاهة في الاستهلاك مرتبطة بظهور طبقة صعدت فجأة إلي القمة دون اعداد أو تأهيل وأصبحت تحصل علي المال بسهولة ومن مصادر غير انتاجية.. من المضاربة في الأراضي وتجارة الاسكان الفاخر, والصناعات الطفيلية التي لاتؤثر تأثيرا حقيقيا في دفع عجلة التنمية مما يسميه الاقتصاديون الاستثمار غير المنتج ولكنه يدر أرباحا كبيرة سهلة.. ولأن هذا الاستثمار أسرع عائدا وأقل مخاطرة من الاستثمار الزراعي أو الصناعي فهو أكثر جذبا لمن يستعجلون الربح ولايهمهم أمر التنمية من الطبقة حديثة العهد بالثروة, بينما يتجه إلي النشاط الانتاجي طبقة أكثر رقيا وتعليما واستقرارا.. وهذا يعني أن السلوك الاستهلاكي والسلوك الانتاجي كلاهما انعكاس للمرحلة التي يمر بها المجتمع, والتي أفرزت طبقة أقل رقيا وثقافة واصالة وأكثر مالا.. والمال قوة كما يقول علماء السياسة.. والمال لابد أن يعبر عن نفسه وكما يقول الاقتصاديون الأموال تتكلم وعندما تأتي الأموال سهلة وبسرعة وكثيرة وبوسائل ملتوية فإنها تتكلم باساليب ملتوية وتتجه إلي اتجاهات ملتوية.. وهذا مايحتاج إلي وقفة.. لأن ترشيد السلوك الاستهلاكي والانتاجي ليس أمرا سهلا.. ولايتحقق بالتوجيه والارشاد ولكنه يتحقق بتغير السياسات والإجراءات وبنشر ثقافة استهلاكية عاقلة في المجتمع, وفي تنفيذ حملة توعية تواجه حملة الاعلانات التي تحرض الجميع علي الاستهلاك المظهري وتصل في دعوتها إلي إغراء ذوي الدخول المحدودة لاقناعهم بأن تقليد الطبقة الجديدة يجعلهم منها..!
والتوجه العام نحو تحويل المجتمع المصري إلي مجتمع استهلاكي, وتقليد المجتمعات الاستهلاكية في أمريكا وأوروبا هو بلاشك توجه شديد الخطورة.. لأن تلك المجتمعات أصبحت استهلاكية بعد أن حققت أهدافها كاملة بالانتاج وزاد الانتاج علي حاجتها وتوسعت في التصدير إلي أبعد مدي.. وأصبحت لديها قوة انتاج, وقوة في سوق التصدير, بما يسمح لها بأن تتوسع في الاستهلاك الضروري والترقي.. لكن الأمر عندنا مختلف.. ولابد أن يكون السلوك مختلفا.. لابدأن نقف أمام ثقافة الاستهلاك لنعمق مكانهاثقافة الانتاج بتشجيع كل فرد علي الادخار, أي أن يكون انفاقه أقل من دخله مهما يكن دخله محدودا, وهذه من فضائل المجتمع المصري القديم. أن يحرص الفرد علي الادخار مهما يكن دخله محدودا.
ويكفي ان نعرف ان الادخار المحلي في مصر في حدود6% من الناتج المحلي, بينما في كوريا35% وفي ماليزيا38% وفي سنغافورة47% وفي تايلاند36% وفي هونج كونج31%.. فليس هناك وجه للمقارنة. وبعض الدول تطبق نظام الادخار الاجباري باستقطاع نسبة من دخل كل مواطن تعود إليه عند التقاعد.. ولاداعي لتكرار الاشارة إلي أهمية ضغط الانفاق الحكومي.. لأن الحكومة اذا بدأت بنفسها فسوف يسري في المجتمع سلوك ضغط الانفاق فيما هو ليس ضروريا.
والادخار الذي نعنيه ليس الاكتناز.. أو وضع المدخرات تحت البلاطة علي حد التعبير الشعبي.. ولكن أن يتعلم المصريون استثمار مدخراتهم في وسائل انتاجية.. ويتعلموا شراء أسهم في شركات انتاجية جديدة أو شركات استصلاح أراضي.. ولأن المواطن المصري حديث عهد بمثل هذا النوع من الاستثمار فإنه يحتاج إلي جهاز خبرة يرشده ويوجهه إلي أفضل وسيلة مضمونة يضع فيها مدخراته القليلة.. ولابد أن تقوم المدرسة بدورها القديم في تعويد تلاميذها من المراحل الأولي علي الادخار.. وقد كنا منذ سنوات نري مدارس تحرص علي فتح دفتر توفير البريد أو البنك لكل تلميذ ليضع فيه قروشه التي يدخرها كل شهر.. لأن الهدف هو تنمية سلوك الادخار.. وكان الادخار في كل بيت عادة متأصلة.. وكانت الاسر المحترمة لاتربط بين مكانتها الاجتماعية والاسراف في الانفاق المظهري.. وهذه كلها قضايا لم يقم العاملون في التربية الاجتماعية بدورهم فيها.
أما قضية التصدير فهي الأكثر تعقيدا.. لأن نمو الصادرات يتوقف علي سياسات الحكومة لتشجيع الصادرات وفتح الأسواق الخارجية لمساعدة المصدرين.. وقد أصبحت الحكومات الآن هي التي تفتح الأسواق.. وأصبح التصدير من صميم العمل السياسي والدبلوماسي.. وفي الوقت نفسه فأن التصدير يتوقف علي نجاح الصناعة المصرية في الوصول إلي المستوي الذي يجعلها قادرة علي المنافسة في الأسواق الخارجية بالسعي والجودة, وهذه مسئولية رجال الصناعة في القطاعين العام والخاص.. ولكن الجديد ان بعض رجال الأعمال ذهبوا لانشاء مصانع في دول خارجية لاستثمار أموالهم هناك بدلا من اقامة صناعة تصدير في الداخل وهذه ظاهرة جديدة تحتاج إلي دراسة ومواجهة.
لقد حققنا نجاحا ملحوظا في الموازين الاساسية, وأصبح الاقتصاد المصري الآن بشهادة المنظمات والمؤسسات الدولية مهيأ للانطلاق ليكون بين الدول الاسرع نموا في ظل التوجهات والسياسات الجديدة.. والدور الآن علي المواطن ليسأل نفسه ماذا أفعل للمشاركة في هذه النهضة الجديدة.. لأن الدولة وحدها لن تحقق كل شيء.. واليد الواحدة لاتصفق كما يقول المثل الشعبي الحكيم.