أمراض الجهاز الإدارى
علي المستوي النظري ليس هناك خلاف علي أن النجاح الذي تحقق في الاصلاح الاقتصادي لم يلاحقه نجاح في الاصلاح الاداري لاعادة بناء جهازالحكومة ونظم التوظف والترقية والثواب والعقاب, ولم يساعده تغيير حقيقي في مفهوم الوظيفة العامة, ونتيجة لذلك تحقق التقدم في القطاعات الاقتصادية والصناعية, ولم يتحقق تقدم مماثل في لاجهزة الحكومية ومازالت تعاني الجمود.
وعلي المستوي العملي هناك اجماع علي الشكوي من امراض الجهاز الاداري التي تمثل المعاناة الحقيقية للمواطن, ويكفي ان تقرأ مجموعة مقالات بديعة للدكتور حسين مؤنس يضمها كتاب جديد صدر اخيرا بعنوان.. المصريون والحضارة لتري التجسيد الكامل لأزمة الوطن وما يعانيه من الاحباط والتوتر عندما يحتاج الي التعامل مع موظف من موظفي الحكومة.. وبينما يحصل المواطن في اي دولة متقدمة علي الخدمة او الشهادات او الموافقات او التأشيرات بالتليفون او البريد او بالفاكس, فإن الموطن العربي لابد ان يضيع اسابيع او شهورا من عمره, ويترك عمله مضطرا لكي يتردد علي مكاتب الموظفين واذا لم يقم بنفسه بتحريك الاوراق من مكتب الي مكتب فقد يستغرق ذلك شهورا.
يروي الدكتور حسين مؤنس بأسلوب درامي ساخر مأساته حين اراد الحصول علي تقرير من موظف وجده مشغولا بالشكوي لزملائه من الدنيا وما فيها فلم يجد وقتا لانجاز المطلوب, واكتفي بأن يردد عبارة واحدة ينهي بها مقابلة كل من له طلب: تمر علينا بعد اسبوع او عشرة ايام..
ويسجل الدكتور حسين مؤنس حوارا يثير الضحك بينه وبين الموظف يعيد الي ذاكرتنا القصة الجميلة الشهيرة التي كتبها الدكتور حسين مؤنس ايضا بعنوان.. ادارة عموم الزير وملخصها ان فاعل خير قدم لاحدي الوزارات زيرا ليشرب منه الناس في منطقة رأي ان السائرين فيها يحتاجون الي جرعة ماء فلا يجدونها.. وحين عاد المتبرع الكريم بعد فترة وجد ان هذا الزير قد تحول الي ادارة كبيرة فيها موظفون وسعاة وعمال ومفتشون ومراقبون ومحاسبون وشئون عاملين وادارة قانونية وكل ذلك استجابة لضرورات العمل الحكومي, وحين اراد ان يشرب من الزير اكتشف ان الزير ليس فيه ماء.!
وهذه القصة وان بدت من صنع خيال ساخر فقد رأيتها بعيني في احد مصانع القطاع العام قبيل حرب67 حيث تصادف وجودي في زيارة لهذا المصنع مع وجود لجنة من الخبراء لمعاينة توافر اجهزة وخراطيم ومعدات الاطفاء واشتراطات الدفاع المدني والامن الصناعي, واثبتت في تقريرها ان كل شئ كامل.. وقبل ان تغادر اللجنة المصنع خطر علي بال احد اعضائها ان يسأل عن مصدر المياه في حالة نشوب حريق, فتبين ان هذا هو الشئ الوحيد الذي لم يفكر فيه احد..
وتحت عناوين ساخرة مثل نحن نصنع المتاعب ثم نغرق فيها وعندنا لكل حل مشكلة. و.. احنا كده خوازيق وبلا قدوة ولا اصول.. والمطلوب تصرف حضاري.. قام الدكتور حسين مؤنس بتشريح دقيق للبيروقراطية المصرية.. ومن خلال هذه اللوحات الواقعية نستطيع ان نعايش المشكلة بأكثر مما تحققه البحوث والدراسات الاكاديمية وأما اكثرها.
والدراسات الاكاديمية كثيرة عن مسئولية البيروقراطية في اعاقة التقدم والتنمية وآخرها دراسة ميدانية قام بها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام بالتعاون مع جامعة سيركيوز الامريكية, ونشرت نتائج هذه الدراسة بالانجليزية, ثم ترجمها الدكتور علي ليلة في كتاب بعنوان البيروقراطية المصرية وفيه دراسة وافية لجذور البيروقراطية ومراحل نموها من عصر الاحتلال الي الآن.. ويشير البحث الي رحلة الثورة التي حرصت علي التوسع في الخدمات وادي ذلك الي زيادة الاجهزة البيروقراطية خاصة بعد التأميم سنة1961 واتجاه الدولة الي المركزية وتغلغل اجهزة الدولة في كل انشطة المجتمع وكانت نتيجة ذلك تضخم البيروقراطية الي درجة تحولت فيها اجهزة الحكومة الي عقبة تعوق تقدم وتنمية المجتمع, وبعد ان كانت البيروقراطية محكومة بأخلاق الطبقة الوسطي ذات الطبيعة المثالية أصبحت محكومة بقطاع جديد من الموظفين تحركه دوافع الحرمان القديم والشوق الي المال والمناصب, وبدأ التخلي عن اخلاق الطبقة الوسطي ومثلها والانفصال عن مشاعر الموطنين والاكتفاء بالبحث عن المغانم من الوظيفة.
ثم ظهر التناقض بين اهل الثقة واهل الخبرة وتأرجح الجهاز الحكومة بين الاعتبارات السياسية والاعتبارات المهنية والفنية.. وانتشار الخوف والشك في القيادات الوسطي والموظفين الصغار مما جعل التمسك الشكلي بالقواعد حرفيا هو افضل طوق للنجاة لمن لا سند له.. والنتيجة شيوع الجمود وعدم المرونة.. ثم ازدادت الازمة حين تولي قيادة بعض المؤسسات والاجهزة المسئولة عن الادارة الاشتراكية قيادات تنتمي فكريا او طبقيا الي الطبقة المعادية للاشتراكية فعملت علي تخريب النظام من الداخل دون ان تترك اثرا يورطها في محاسبة.. ثم حدث نفس الشئ عن التحول الي اقتصاد السوق.. فقد تولي القيادة بعض من لا يؤمنون بالحرية الاقتصادية, فقاموا ايضا بالتعويق والعرقلة من الداخل وببراعة ودون ان يستطيع احد توجيه اتهام اليهم.. وطبيعي انه لا يمكن اقامة نظام سليم بأيدي من لا يؤمنون به ولا يشعرون بالحماس لانجازه وانجاحه..
وقد اكتسبت البيروقراطية المصرية من هذه التحولات قدرة هائلة علي الخداع والمراوغة والتظاهر بالانجاز, وبراعة في اعداد تقارير وردية مليئة بأرقام غير صحيحة استنادا الي ان احدا لن يحاسب او يعاقب, وان الكبار يريدون مبالغات في الانجاز وان الارقام الواقعية لا ترضيهم لأنهم يريدون اظهار معجزات وليس انجازات.. وهكذا ظهرت فجوة بين حماس الصفوة السياسية لتطوير الواقع الاجتماعي واداء الاجهزة الادارية التي اكتفت بالتقارير المصنوعة دون عمل حقيقي لتطوير الواقع, وظهرت الانتهازية الوظيفية التي تجيد الاحتماء بالنصوص للتهرب من المسئولية كما تجيد العمل بوجهين. وجه للرؤساء ووجه للجمهور.. وجه يظهر الحماس للتطوير ووجه يحارب التطوير ويعاقب من يسعي اليه ويضطهد العناصر النشيطة والمخلصة في الخدمة العامة. ووأد اصحاب المواهب الادارية خوفا من ظهورها.
ثم جاءت ظاهرة تفتيت العمل الواحد وتوزيعه علي اكبر قدر من الموظفين لايجاد وظائف وهمية للتعيين والترقية حتي اصبح العمل الحقيقي للموظف لا يحتاج إلا الي بضع دقائق في اليوم, واضيف الي ذلك توزيع الموظفين الجدد بصورة عشوائية, وما ادي اليه من عدم شغل الوظائف بالمؤهلات المناسبة واصبحنا نسمع الآن عن دبلوم صنايع يتولي ادارة هندسة مبان في مجلس مدينة.. ونتيجة انتشار هذه الظاهرة استمرار ما شكونا منه في السبعينيات من العقبات والانحرفات وما تكشف عن فساد بعض الاجهزة.
لكن الانصاف نقيضي الاعتراف بأن هناك تغييرات حدثت في الاجهزة الحكومية وتم اختصار دورة الروتين والغاء خطوات ومراحل شكلية في المواقع المتصلة بالتنمية ومشروعات الاستثمار وبعض مواقع الخدمات.. ولكن اكثر مواقع الخدمات مازالت تضع امام المواطنين العقبات نتيجة ما فيها من الجمود والسلبية والكسل والتعقيدات.. ولذلك نقول ان القضية تحتاج الي عمل غير تقليدي لاصلاح اجهزة الحكومة بنفس الاسلوب الحاسم الذي نجح في الاصلاح الاقتصادي.